هل تساءلت يوما عن أسباب حنينك المستمر لذكريات الطفولة، أو لرائحة الطعام لدى عودتك من المدرسة؟ هل تتمنى عودة الأيام التي كنت تتحدث فيها مطولا مع والديك حول تفاصيل يومك؟ أو للعب كرة القدم في الحي مع أصدقائك؟ أين ذهبت تلك الذكريات التي سمحت لخيالنا بالهروب إلى عالم صنعناه بأنفسنا؟ لَم تمثل التكنولوجيا الرقمية جزءا كبيرا منها، فأغلبنا لم يكن يمتلك هواتف ذكية تشتت انتباهنا عن تلك التفاصيل.
أصبح إعطاء الوالدين الأجهزة الذكية لأطفالهم ليتمكنوا من ممارسة أعمالهم وإدارة مهامهم اليومية مشهدا مألوفا، فهي توفر حلا مؤقتا واستراحة قصيرة من متطلبات رعاية الأطفال.
ربما ينجح هذا الأمر حاليا، لكنه يطرح تساؤلات عدة حول تأثير الاستخدام المفرط للتكنولوجيا على نمو الأطفال وتركيزهم على المدى البعيد.
في دراسة سابقة أجراها معهد الدوحة الدولي للأسرة، عضو مؤسسة قطر، أشار الباحثون إلى العلاقة الوطيدة التي تربط البيئة الأسرية بالاستخدام المفرط للتكنولوجيا، إذ ساهم أولياء الأمور في زيادة هذه الظاهرة دون وعي منهم بإعطاء الهواتف الذكية لأبنائهم وقت انشغالهم، مع غياب عنصر الرقابة في كثير من الأحيان.
الاستخدام المفرط للتكنولوجيا يؤثر سلبا على نمو الأطفال وتركيزهم على المدى البعيد (غيتي)
تقول اختصاصية الأبحاث والمنح في معهد الدوحة الدولي للأسرة فاطمة المطوع إن “الإهمال الأسري وقلة التفاعل بين الوالدين وأبنائهم يؤدي إلى استخدام الأطفال التكنولوجيا الرقمية بشكل مكثف وعلى نطاق واسع، فقد أصبحوا منعزلين اجتماعيا عن العالم والتجمعات الأسرية”.
مع انتشار الأجهزة الإلكترونية على نطاق واسع في عصرنا الحالي، أضحت التكنولوجيا بديلا عن مقدمي الرعاية، إذ مكنت الوالدين من الاعتماد على التطبيقات والأجهزة الذكية التي غالبا ما تكون مزودة بألعاب جذابة وألوان ساطعة وأصوات صاخبة تضمن بقاء الأطفال منشغلين. كما أنها تقدم تجارب تعليمية وتفاعلية قيمة وسهلة الوصول، مما يُشعل مزيدا من الشغف تجاه استخدامها.
ومع ذلك، فإن الاعتماد المكثف على التكنولوجيا يجلب متاعب لا يُمكن التغافل عنها، إذ يؤثر الاستخدام المفرط للأجهزة الرقمية على الصحة البدنية للطفل ويحد من فرص التفاعل الاجتماعي التي تعد ضرورية لنموه المعرفي والعاطفي. لذلك، من الضروري دمجها لتكون أداة مستخدمة بشكل مدروس بدلا من هواية مستهلكة، وهنا يكمن دور الأهل في تعزيز ثقافة الحوار المفتوح حول المخاطر والفوائد المحتملة للتكنولوجيا وتقنين استخدامها، وكذلك إظهار المسؤولية وتوفير الدعم العاطفي الذي يقلل من اعتماد الأبناء على التفاعلات الرقمية.
تُشير المطوع إلى دور أولياء الأمور بهذا الشأن قائلة، “إن انعدام رقابة الأهل على أبنائهم وتوظيفهم للتكنولوجيا بديلا لمقدم الرعاية للأطفال يؤثر بشكل كبير على الاستخدام غير المسؤول لها. من المهم بقاء أولياء الأمور على تواصل دائم مع أبنائهم في ما يتعلق بالاستخدام المبالغ به للأجهزة الرقمية، وذلك لتجنب عزل أبنائهم اجتماعيا عن أُسرهم والعالم المحيط بهم. لا يُمكن التغاضي عن العواقب الوخيمة التي تُضعف تركيز الأبناء وذاكرتهم نتيجة الاستخدام المفرط للتكنولوجيا”.
تعد التفاعلات الاجتماعية والتجارب المشتركة والحضور الجسدي جوانب لا يمكن الاستغناء عنها في تربية الأطفال (غيتي إيميجز)
وأضافت أن “هذه العوامل تنعكس سلبا على تصرفات الأبناء ونومهم وصحتهم البدنية، فهي تقودهم إلى الشعور الدائم بالغضب ودخولهم في نوبات عنف وصراخ في حين لو تم حرمانهم من هواتفهم أو مصادرتها كإجراء عقابي، ناهيك عن ضعف التحصيل الأكاديمي. من الممكن أيضا أن يُفاقم هذا الإجراء من حجم المشكلة ويُزيد من ارتباط الأبناء بهواتفهم، خصوصا إذا كان غياب التواصل بين الوالدين وأبنائهم هو المسبب الرئيسي لها”.
وترى المطوع أهمية تبني الأهل ثقافة الحوار المفتوح لمعالجة الأمر بدلا من الاستسلام له. كما تحثهم على اتباع مجموعة من الممارسات التي من شأنها إدارة هذه المشكلة، “فعلى الأهل أن يوفروا أنشطة بديلة عن التكنولوجيا مثل: استثمار طاقات أبنائهم في الرياضة، ووضع قواعد واضحة تُحدد عدد الساعات التي يُسمح فيها باستخدام الأجهزة الرقمية، وتخصيص مزيد من الأوقات الأسرية لإبقاء الأبناء بعيدين عنها”.
كذلك، يمتد دور الأهل إلى ما هو أبعد من توفير الاحتياجات الأساسية، فهو يشمل تقديم الدعم العاطفي والتوجيه والرعاية، هذه العناصر ضرورية لنمو الطفل ورفاهه. إذ يُمكن للتكنولوجيا دعم مقدمي الرعاية من خلال تزويدهم بالموارد التعليمية وتوفير أدوات التعلم التفاعلية.
ومع ذلك، لا يمكن لأي قدر من التقدم التكنولوجي أن يحل محل الفهم الدقيق والاتصال العاطفي الذي يوفره الوالدين لأبنائهم، إذ تفتقر التكنولوجيا إلى القدرة على التعاطف مع الطفل في وقت عصيب أو مواساته.
كما أن التفاعلات الاجتماعية، والتجارب المشتركة، والحضور الجسدي جوانب لا يمكن الاستغناء عنها في رعاية الأطفال، والتي تعزز الأمن العاطفي والمهارات الاجتماعية لديهم. ومن خلال التعاون معا، يمكن للوالدين والأطفال إنشاء بيئة رقمية متوازنة تدعم عادات تكنولوجيا صحية وروابط أسرية قوية في الوقت ذاته.