الاخبارالمواضيع الرئيسيةمقالات

عنوة الوداع | فاطمة محمد الأمين إنجيان

عنوة الوداع (3)

 

دخلتُ البيتَ بعد أن استلم مني أحدُهم “أختي الديدة”، التي كانت تستند إليَّ وهي شبه مغمى عليها…

 

دخلتُ أبحثُ بعينَيَّ، وقلبي يسبقني للاطمئنان على بقية إخوتي… كان الوضعُ صعبًا وضاغطًا ومؤلمًا في آنٍ واحدٍ. كنتُ كلما شعرتُ بالضعف، تمنيتُ أن يحضنني من أشمُّ فيه رائحةَ أبي؛ ليهدأ روعي وأطمئن، كما كنتُ كلما لذتُ بحضنه -رحمه الله-.

 

ومن بين كل إخوتي، لم أخشَ على صبري من لقاء غير لقاء أختي “اللول” و”لالة”، لمعرفتي بفرط ضعف الأولى ورقة الثانية. وقبل أن أشفقَ على نفسي وعليهما، وصلت “لالة” كما توقعتُ، تصرخُ ببكاءٍ يمزق القلبَ وهي تجرُّ ثيابها، وراءها أناسٌ يحملون الصغيرَ “أحمدو”…

 

حدثتُ نفسي للحظةٍ بضرورة مواجهتها ونهرها عما هي عليه، قبل أن ينقذوني بجرِّها لغرفةٍ متأخرةٍ من المنزل… لم أنسَ تمتمتَها المبحوحة وهي تختفي بين زحام الملاحف. كان قلبي يخفق بشدةٍ، وأنا تائهةٌ بين الغرف، لا أدري بأيها ألوذ، وبأي أفراد أسرتي ألتقي…

 

قررتُ أن أبحثَ عن أمي لأسندَها وتسندني، فهي أحسنُهم صبرًا رغم ما تشي به تجاعيدُها المفاجئة من وجع… وأنا في الطريق إلى الصالون الصغير، مرت عيناي على جسدٍ لا تبدو فيه الحياة، تتحلق حوله بعض النسوة… بدت لي تلك الأرجلُ مألوفةً، تحمل بصمات الأسرة الوراثية… سمعتُ قول إحداهن: “السالكة ماه فالك؟”…

 

يا الله! إنها عمتي الوحيدة، وأميرة والدي المدللة!

يا الله، الطفْ بحالي وحالها، وارزقنا القوة… هكذا رددتُ في نفسي وأنا أسرع الخطى مبتعدةً عبر الردهة في طريق الصالون الصغير…

 

دخلتُ لأرى هيكلَ أمي وهي جالسة، بدت لي قويةً رغم التصاق لباسها بجسمها من أثر التعرق ومزاحمة الناس… جلستُ بجانبها لبرهة، رفعتُ وجهي إليها وهي تحاول أن تبتسم، وقالت: “وني… ذِيك منتي؟ كيف حال أخواتك؟ امسكينة لال جات؟”

 

أشحتُ بنظري وقلتُ لها بصوتٍ مرتعدٍ -تائبةً إلى الله من حالهن-: “أشهدك أني صابرةٌ محتسبة، ولا أحب أن يفسدنَ -أو غيرُهن- صبرَنا وتسليمَنا بقضاء الله…”

 

ربتت على كتفي وهي تتنهد وتقول: “إخليكلي… خالك ألا مولان.”

ابتعدتُ عنها لأجلسَ في جهةٍ لا أواجه فيها ملامحَها المفجوعة… تعهدتُ في نفسي -وأنا أحاول التغلب على وساوس الشيطان- أن أتحمل المسؤوليةَ لأعينها قدر المستطاع.

 

كانت حواسي تتجه للوذ بالدعاء وإظهار التسليم بقضاء الله… لم أستطع التعرف على من هنَّ معنا في الغرفة، أو بالأحرى لا أذكرهن، ولم يسعَ انتباهي غير أمي عندما أسمع ردَّها على بعض التعازي أو الأسئلة التافهة -والسادية أحيانًا- من قبيل: “كيف مات؟ وهل صحيح أنهم ضربوه بقذيفة؟!”

 

كنتُ أسأل نفسي عن جنس السائلين وإدراكهم لتصوير ما يقولون… كنت أتدخل لأوقف البعضَ وأشدد أن من يريد التعزيةَ فتقبل الله سعيه، ومن يريد إيلامَنَا أو نقضَ صبرنا فليتوقف وليتقِ الله… كنتُ ألجأ للحدة لأوقف بعضهن -سامحهن الله-.

 

تحولت بعض دقائق الجلوس إلى مجيب آلي على التعازي والسلام الضاغط… كنت أتعرف على نظرات الشفقة دون أن أعرف أصحاب الوجوه، وبين صمتٍ مؤقتٍ وحديث تعازٍ، دخلت “اللول” تقفز وتصرخ مثل المجنونة… صراخٌ وركضٌ وملابس تُسحب في كل مكان من الغرفة… بدأت أمي تحوقل قبل أن تطلب مني معالجة الأمر…

 

قمتُ إليها سريعًا دون أن أخطط لفعلٍ أو كلام، وما إن وصلتُ إليها حتى أخذتُ بتلابيبها لتتقابل العيون لبرهة… كانت مقلتاها المتعبتان تشيان بالتشتت والضياع، أيقنتُ في نفسي أنها جُنَّت… سكتُ قليلًا وهي تحدق بي قبل أن تعيد الصراخ، فأخذتُ أشدُّ خناقها وأذكرها بما أستطيع من تذكير بالله وحكمه وقضائه الذي لا راد له… وكانت كلما أنصتت قليلًا عاودت الصراخ، لأتركها بعد أن تحول نحيبُها للحوقلة دون غيرها…

 

جاء بعض أفراد العائلة ليأخذوها، كنت أسمع بينهم صوت عمي عبد الرحمن ولد انجيان -رحمه الله-… ابتعد الصوت تدريجيًّا، ورجعتُ لمكاني مرهقةً من قوة الموقف، لأستأنف روتين استقبال المعزين ومواجهة نظرات التعاطف وأسئلة التطفل.

 

وقف أحدهم ونادى الوالدة بأن عمي الحسن ولد انجيان يستأذنها في نقل الجثمان إلى شنقيط، فأجابته بأن الرأي يعود له في كل ما يراه… لم تنتهِ محادثتهما حتى بدأت دموعٌ حارةٌ تجري من عيني لدرجة لم أعد أرى، ودخلتُ في مناجاة مع ربي أسأله الثبات، وأنا مثقلةٌ بعدم دفن الوالد بجانب أبيه “انجيان”، لشدة ما عرفتُ في والدي من تعلقه بوالده…

 

توالى على طول اليوم والليل جلباتٌ وتحلقاتٌ حول بعض أفراد الأسرة والأصدقاء والإخوة… فذاك عَلِمَ للتو، وتلك وصلت قبل قليل، وذاك أو تلك رأى أو رأت بعض أصدقاء الوالد أو أهل وده…

 

كدنا أن نكون جميعًا في تلك الأيام غرباء في بيتنا، فلا نكاد نتعرف على المتجمهرين في جميع الغرف… وكانت أصعب اللحظات هي تلك التي تصحبك العيون المتفحصة متى قمت أو قعدت، أو ذلك الوقت الذي يتحينه غريب ليسألك سؤالًا غبيًّا حول: “ماذا فعلت معكم الدولة؟ أو كيف مات المرحوم؟ وهل حقا فصل رأسه عن جسمه؟!”

 

وكانت أحن الأوقات تلك التي تنزوي فيها إحدانا مع الأخرى لنتذكر كلماته لنا، ولحظات احتضانه واحتوائه بحب، دون بكاء أو نحيب.

 

في اليوم الثاني، كانت “الديدة” نائمةً باستمرار بفعل الإبر التي أخذتها في المستشفى، وكانت “اللول” و”أسويلكة” أكثر هدوءًا واتزانًا بفعل ركوبهن سيارة الإسعاف التي أوصلت جثمان الوالد للمسجد السعودي للصلاة عليه… كنَّ يذكرن أنهن تحسسن ملامحه من فوق الكفن… تقول “اللول”: “إنه أباي يوني بعينيه وأنفه وفمه!”، فترد “أسويلكة”: “والله حتى نفس كرعيه يوني! حتى أصبع العائلة المميز واضح من تحت الكفن!”(أغلب أفراد الأسرة يكون الأصبع الصغير في القدم مدبب الرأس، وكأن رأسه قمة مثلث).

 

وصل اليوم الثالث، ولا تزال وفود المعزين والأصدقاء يصلون في أوقات متفرقة، يتخللها بكاء جديد أو ذكر لبعض من وصل دون أن يتشجع على الدخول…

 

في الليلة الثانية، وصل صديق وخل أبي، العقيد سالم ولد ممو… وقع نظري عليه فجأة في إحدى زوايا البيت، وقبل أن أفكر، حملتني رجلاي ركضًا إليه، ورماني الوجع في حضنه… “ياوني أل حد يبقيه بوي…”

ما إن أكملتُ الجملة حتى أحسست بأشخاص يسحبوني من جهة، وآخرين يسحبونه، وأصوات تتعالى: “هاذي متو! عيطول الطبيب!”… مرت عملية سحبي بسرعة وأنا مذهولة أمام التزاحم حولي، وعندما حاولتُ أن أتكلم، إذا بالطبيب محمد الأمين ولد محمد أحيد يقرب مني ويأمرني بتناول حبة دواء… فسألته بصوت متهدج: “اعلاش؟ آن مامالي ش؟”، ليرد: “لا بأس، خذي الدواء سيريحك قليلاً فقط.”

 

أخذتُ الدواء أملاً في أن ينفضوا من حولي، وطعم ملح الدموع قطعًا غطى على طعمه، لأنام بعدها وأستيقظ في الغد وأنا أكثر إرهاقًا مما كنت عليه البارحة.

 

في اليوم الأخير، بدأتُ أفيق أكثر على هوية بعض المعزين، وأسمع روايات انهيار بعض من أعرفهم، كحابة ولد محمد فال وودو ولد احويبيب، الذي بدا لي مثل المشرد الذي فقد وطنه للتو… كانوا يرددون رسائل المعزين من الشخصيات العامة من علماء، مثل ولد عدود وولد الددو وغيرهم، ممن ذكر أن المقام مقام استشهاد، وأن من اغتاله قاتل للنفس التي حرم الله قتلها.

 

كانت خالتي السالمة منت الدرويش ملتصقة بأختها، لا تكاد تفرق بينهما من شدة ما بدى عليهما… ومما أثر فيَّ كلام خالتي أن ما يحز في نفسها ليس وفاة أبي -لأنها مؤمنة بالله-، ولكنها تأسف على أنه توفي دون أن يعلم بمقدار معزته عندها… قد تكون كلماتها عادية، لكنها في عمقها تعبر عن كل فقد في مجتمع يعتاد كتم المشاعر حتى تنفجر ذات فقد مباغت، فتترك الحي أكثر مواتًا من المتوفى وهو يكابد كثافة المسار وتوالي الذكريات…. يتواصل

 

فاطمة محمد الأمين إنجيان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى