إن رقمنة مخالفات قانون السير تمثل مبادرة هامة تهدف إلى تحسين النظام المروري وتخفيف الفوضى في الشوارع وحركة النقل. ومع أن هذه الخطوة تأتي كجزء من سياسة الحكومة الجديدة، والتي نأمل أن يكون لها أثر إيجابي على سلامة المواطنين والممتلكات، إلا أن هناك سلسلة من التحديات تبرز قبل تطبيق هذه المبادرة.
فمثلًا، لن يتحقق تأثير رقمنة مخالفات السير دون التصدي لمشكلة أخرى أساسية، وهي مسألة رخص القيادة. فقد حصل العديد من السائقين، نحو 90%، على رخص بطرق غير نظامية ودون تدريب كافٍ على قوانين المرور. إذن، قبل أن نتمكن من تطبيق الرقمنة، علينا إصلاح نظام منح الرخص أولاً. ولكن، حتى لو أصلحنا هذا النظام، يبقى أن قلة فقط من السائقين يفهمون الإشارات والقوانين المرورية، مما يعني أن هذه الخطوة وحدها لن تكفي.
إضافةً إلى ذلك، تظهر مشكلة ترقيم السيارات، فالأرقام تُباع بشكل عشوائي، ودون رقابة صارمة. إذ تمنح المحلات المتعددة، التى تعد وتبيع الأرقام، لكل قادم الرقم الذى يطلب مما فتح المجال في الماضي لاستغلال هذه الأرقام في ارتكاب الجرائم. وطالما أنه يمكن لأي شخص الحصول على رقم سيارة تابع لشخص آخر، وحيث ان كاميرات الرقابة ترصد رقم السيارة المخالفة، لابد إذن، من حل مشكلة الترقيم، لكن لا يمكننا ضبط هذه العملية دون وجود آليات موثوقة لتسجيل الأرقام وربطها بالسيارات وأصحابها. بالتالي يجب، في البدء، تطبيق إجراءات صارمة لضبط عملية ترقيم السيارات، بحيث تصدر الأرقام فقط من هيئات رسمية وموثوقة. يمكننا الاستفادة من التجارب الدولية، مثل تلك الموجودة في المملكة العربية السعودية، التي تطلب من الشخص تقديم إثباتات ملكية قبل إصدار رقم جديد، ويتم تسليم الرقم للمعني عبر عنوانه عن طريق البريد الموثوق. هذا بدوره يتطلب التصدي لنقطة أخرى، وهي ضرورة تحسين خدمات البريد.
لكن، قبل تحسين خدمات البريد، لضمان إرسال أرقام السيارات بطريقة آمنة، يجب علينا حل مشكلة العناوين الدقيقة والواضحة التي يمكن إرسال الوثائق إليها. وهنا نصطدم بمشكلة أخرى وهي عشوائية الأحياء وصعوبة تحديد عناوين دقيقة للسكان. إذن، لن نتمكن من تطبيق الرقمنة بشكل كامل إلا إذا تم تنظيم الأحياء وتحديد العناوين بشكل موثق.
ننتقل إلى مسألة أخرى مهمة وهي توعية المواطنين. فرغم أن رقمنة المخالفات خطوة جيدة، إلا أنها لا يمكن أن تنجح بدون تثقيف المواطنين حول الالتزام بالقوانين المرورية. لكن، حتى توعية المواطن تتطلب بيئة مهيأة، أي برنامجا إصلاحيا لا يمكن أن يُنفذ بنجاح إلا إذا شارك فيه المواطن وتم تهذيبه وتوعيته للتكيف معه، فإذا أردنا تحسين نظافة المدينة مثلاً، فلا يمكن للبلدية أن ترسل شاحنة تتبع كل سيارة لالتقاط ما ترميه من نفايات، ولا يمكن تخصيص شخص خلف كل مواطن لجمع القمامة التى يرميها. لذا، لا بد أن تتغير عقلية المواطن ليكون هو من يسهم بشكل مباشر في النظافة عن طريق رمي المخلفات في أماكنها المخصصة بنفسه. لكن هنا أيضًا، نصطدم بعائق آخر، وهو غياب صناديق القمامة في الأماكن العامة. وبالتالي، نكون أمام حلقة متكررة من المشكلات، حيث يؤدي كل إجراء إلى الكشف عن مشكلة أخرى تحتاج إلى حل قبل تحقيق أي تقدم فعلي.
ومثل ذلك، منع التبول في الشوارع. يبدو المنع، في الوهلة الأولى، منطقيًا، لكن إذا لم نوفر مراحيض عمومية متعددة، و في غياب المقاهي الكثيرة في كل حي، والتى توفر الخدمة للمارة كما هو الحال في جميع الدول، فإن تطبيق هذا القانون سيكون مستحيلًا. فهل يُعقل أن يضطر الشخص إلى دق أبواب المنازل لطلب الإذن في قضاء حاجته؟!.
وهكذا، نجد أن كل إجراء نتطلع إلى تطبيقه يفتح الباب أمام مشكلة أخرى تتطلب حلولًا سابقة. وبالتالي، يتطلب أي إصلاح شامل في هذا المجال سلسلة من الإجراءات المترابطة.
إذن، فالفكرة جيدة وسليمة، وإن قوننة تطبيقها مسألة جد سليمة ومعقولة، لأن القانون هو المنظم لكل المسلكيات الاجتماعية، كما أن التجربة أثبتت، في كل أصقاع العالم، أن التغريم رادع، لأن كل غرامة نقدية تخرج من جيب صاحب المخالفة تكون متراسا يحول، في الغالب، دون تكرار نفس المخالفة، غير أن هذه الفكرة، شأنها في ذلك شأن كل الأفكار السليمة المتخذة في بلادنا، لابد أن تصطدم بمجموعة من العراقيل البنيوية التي يعتبر حلها ديباجة لأي إصلاح. إنها سلسلة من الأفكار الواردة جدا، والتي تعيقها سلسلة من المشاكل البنيوية، التي لا مناص عن تتبعها حتى نهاية السلسلة، ومن ثم حلها بالترتيب، قبل تطبيق الأفكار الإصلاحية السليمة والضرورية لعصرنة البلد.
مهما يكن، فمن المفيد أنه أضحى بالإمكان اتخاذ هذه الأفكار السليمة. وإن كان تطبيق مثل هذه الأفكار يظل صعبا، وهو يتطلب تعبئة الجميع، وتغيير عقليات الجميع. فصعوبة تطبيق هذه الأفكار يكمن في كون كل عرقلة ستصب في عرقلة أخرى، ودواليك. فأي قرار يتخذ وأية فكرة توضع ستجد أمامها جملة من العراقيل البنيوية التي لم تعالج أبدا.