المواضيع الرئيسيةمقالات

البرنامج النووي الليبي.. دعمه سرا عالم باكستاني وكشفته استخبارات أميركا

في خضم الحرب الباردة والتنافس الإقليمي على النفوذ، سعى الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي إلى امتلاك السلاح النووي لضمان البقاء وتعزيز مكانة ليبيا قوة إقليمية في شمالي أفريقيا والشرق الأوسط. انطلقت رحلة برنامج التسلح النووي الليبي بمحاولات سرية في نهاية سبعينيات القرن العشرين قبل أن تشهد محطات مهمة، حقق أثناءها القذافي إنجازات قربت ليبيا من حلمها النووي.

لكن تقلب العلاقات الدولية وتزايد الضغوط الغربية، إضافة إلى تداعيات العقوبات الاقتصادية التي فُرضت على البلاد، وضعت حدا لهذه الرحلة، وعجلت بانتهائها عندما أعلن القذافي عن التخلي عن طموحاته النووية في ديسمبر/كانون الأول 2003.

البدايات.. محاولات يائسة في العلن

اتخذت ليبيا خطواتها الأولى نحو التسلح النووي في نهاية ستينيات القرن العشرين، كان ذلك بالتزامن مع اكتشاف فرنسا احتياطات كبيرة من اليورانيوم في جبل تيبستي شمالي تشاد على الحدود الجنوبية لليبيا في عام 1968.

أثار هذا الحدث اهتمام النظام الليبي الفتي بقيادة معمر القذافي، الذي استولى على السلطة عبر انقلاب عسكري في الأول من سبتمبر/أيلول 1969.

ابتدأت ملامح الرؤية النووية الليبية تتضح بشكل جلي بداية سبعينيات القرن العشرين عندما حاول نظام القذافي السيطرة على شريط أوزو، وهي منطقة حدودية بين تشاد وليبيا غنية بالموارد (يورانيوم، ونفط، ومياه جوفية) تقع شمال تشاد، وادعت ليبيا ملكيتها بناء على معاهدات استعمارية قديمة بين إيطاليا وفرنسا في أوائل القرن العشرين.

الخبراء الليبيون في عهد القذافي تلقوا تدريبات في الطاقة النووية على أيدي خبراء باكستانيين (رويترز)

أراد القذافي ضم المنطقة عبر دعم جماعات متمردة تشادية في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، بل دفعت به رغبته الجامحة في الحصول على اليورانيوم إلى الدخول في حرب مع تشاد في الفترة الممتدة بين 1980 و1987، وهو النزاع الذي عرف باسم “حرب تويوتا”، وحسمه فيما بعد حكم قضائي لمحكمة العدل الدولية لصالح تشاد عام 1994.

بالموازاة مع محاولات السيطرة العسكرية على مصادر اليورانيوم في تشاد، وفي سبيل سعيها إلى إنشاء مشروعها النووي، بذلت ليبيا جهودا كبيرة على مستويات أخرى، إذ أحدثت مركز البحوث الصناعية عام 1970، وهو مؤسسة بحثية تتمثل مهمتها الأساسية في تطوير التكنولوجيا المحلية في مجالات الصناعة والطاقة ودعم البرنامج النووي الليبي، لاسيما في مجالات تخصيب اليورانيوم وتطوير الطاقة الذرية.

اتجه القذافي كذلك إلى خيار شراء اليورانيوم الخام من دول أفريقية أخرى، فلجأ إلى اقتنائه من مناجم شمال جمهورية النيجر، والتي كانت تستغلها فرنسا لصالح برنامجها النووي، وكانت عملية الشراء تتم بطرق سرية عبر شبكات التهريب على الحدود الليبية النيجرية.

وفق خبراء الطاقة النووية، يتم إنتاج ما يعرف بـ”الكعكة الصفراء” من سحق صخور اليورانيوم الخام لتتحول إلى مُرَكّز اليورانيوم، ولكي تتحول هذه “الكعكة” إلى وقود نووي لا بد أن تمر من مرحلة التخصيب عبر أجهزة الطرد المركزي، إذ يتم فصل اليورانيوم 235 (يمثل 0.7% من الكعكة الصفراء) عن اليورانيوم 238 (يمثل 99.3% من الكعكة الصفراء)، وتُرفع نسبة اليورانيوم 235 (المشع) من 0.7% إلى نسبة تتراوح ما بين 3% و5% عبر عملية معقدة، لتمثل هذه النسبة الضئيلة من “اليورانيوم المخصب” الوقود النووي في نهاية المطاف.

في ظل افتقار ليبيا للقدرة التقنية على معالجة كميات اليورانيوم التي تمتلكها، سعى القذافي للحصول على التكنولوجيا النووية عبر مفاوضات مع الاتحاد السوفياتي آنذاك، إذ طلب من القيادة السوفياتية عام 1975 تزويده بمفاعل نووي يمكنه من تخصيب اليورانيوم، إلا أن موسكو رفضت طلبه بدعوى خشية انتشار التكنولوجيا النووية في منطقة غير مستقرة.

في المقابل عرضت القيادة السوفياتية بدلا من ذلك مساعدة تقنية محدودة، تمثلت في مفاعلات نووية بحثية صغيرة يتم تخصيصها لأغراض سلمية في الأبحاث الطبية والزراعية. الأمر الذي مكن ليبيا من امتلاك مفاعل تاجوراء بالقرب من طرابلس، الذي يعمل بالماء الخفيف وتبلغ قوته 10 ميغاواط.

وقد بدأ العمل في المشروع عام 1977، ودشن رسميا عام 1981، وذلك بعد سنوات قليلة من مصادقة طرابلس على معاهدة حظر الأسلحة النووية يوم 26 مايو/أيار 1975.

التهريب لبناء البرنامج النووي

بعدما أيقن نظام القذافي أن العرض السوفياتي لا يتوافق مع طموحات ليبيا العسكرية، بحث عن بدائل أخرى تمكنه من تطوير البرنامج النووي الليبي، فلجأ إلى شبكات التهريب النووي، واقتحم السوق السوداء من أجل الحصول سريا على التكنولوجيا النووية.

جاءت اللحظة الفاصلة في يناير/كانون الثاني 1984 حين عقد مسؤولون ليبيون اجتماعا سريا مع العالم الباكستاني عبد القدير خان، المهندس الرئيسي للبرنامج النووي الباكستاني والذي وفر لليبيا مخططات أجهزة الطرد المركزي ومعدات حساسة أخرى عبر شبكته الدولية الممتدة من ماليزيا إلى جنوب أفريقيا.

مركز البحوث النووية في تاجوراء بني بتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية (رويترز)

كما استمرت ليبيا موازاة مع هذه الجهود في تنسيق عمليات تهريب اليورانيوم الخام من مناجم النيجر عبر شبكات التهريب الحدودية، وتلقت كذلك شحنات سرية من اليورانيوم المعالج من حليفتها كوريا الشمالية بشكل غير مباشر عبر باكستان.

بدأت ليبيا تعاونها السري مع شبكة العالم الباكستاني عبد القدير خان فعليا في منتصف الثمانينيات من القرن العشرين، ونجحت بفضله في الحصول على تكنولوجيا نووية حساسة رغم الحصار الدولي المفروض عليها.

فقد كشفت تحقيقات لاحقة أن شبكة خان زودت النظام الليبي بأكثر من 2000 مكون خاص بأجهزة الطرد المركزي، تم تهريبها عبر دول عدة باستخدام شركات وهمية وطرق ملتوية لتفادي الرقابة الدولية.

كما تسلمت ليبيا وثائق سرية تحتوي على تصميمات متقدمة للأسلحة النووية، بما في ذلك مخططات تحويل اليورانيوم المخصب إلى رؤوس حربية، علاوة على دعم فني قدمته الشبكة عبر إرسال خبراء لتقديم الإرشادات التقنية للفنيين الليبيين، رغم محدودية خبرتهم في هذا المجال المعقد.

وقد تم تمويل هذه العملية بميزانية ضخمة، حوّلها النظام الليبي عبر قنوات مالية معقدة شملت بنوكا وشركات في دول عدة.

انكشاف البرنامج السري

في أكتوبر/تشرين الأول 2003، ضُبطت شحنة سرية من مكونات أجهزة الطرد المركزي المتطورة المتجهة إلى ليبيا على متن سفينة شحن ألمانية، في عملية استخباراتية مشتركة قادتها الولايات المتحدة الأميركية بميناء تارانتو الإيطالي.

وكشفت التحقيقات أن هذه المعدات المصممة لتخصيب اليورانيوم في ليبيا كانت جزءا من صفقة سرية مع شبكة العالم الباكستاني عبد القدير خان، وتم شحنها عبر شركة ماليزية تدعى “سكومي للهندسة الدقيقة”، وأزاح هذا الاعتراض الاستخباراتي الستار عن إحدى كبرى عمليات تهريب التكنولوجيا النووية في العالم، وأسفر فيما بعد عن ضغوط دولية مكثفة أدت إلى تخلي ليبيا عن برنامجها النووي بعد شهرين فقط.

وأعلن القذافي تخليه الطوعي عن المشروع يوم 19 ديسمبر/كانون الأول 2003، وسلمت طرابلس كافة المعدات والوثائق النووية لواشنطن مباشرة بعد ذلك في يناير/كانون الثاني 2004 تحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

خطوة اعتبرها البعض آنذاك محاولة من القذافي لتفادي مصير الرئيس العراقي الراحل صدام حسين الذي أطيح به قبل أشهر قليلة من ذلك التاريخ عقب الغزو الأميركي للعراق، وشكل هذا الحدث نهاية لمحاولات سرية استمرت ثلاثة عقود من أجل تطوير سلاح نووي في ليبيا.

من العقوبات إلى الاستثمارات

شهدت ليبيا بعد تخليها عن مشروع التسلح النووي تحولا جذريا في مسارها السياسي والاقتصادي، إذ حصدت البلاد مكاسب مباشرة، تمثلت أساسا في رفع الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية العقوبات التي ظل الليبيون يئنون تحت وطأتها عقودا من الزمن، ففتحت بعد ذلك أبواب الاستثمارات النفطية على مصراعيها أمام الشركات الغربية الكبرى (“شل”، و”إكسون موبيل”، و”بيتروفاك”، و”توتال”..).

وعلى صعيد العلاقات الدولية تحولت ليبيا من “دولة منبوذة” إلى شريك معترف به، فحصلت على مقعد غير دائم في مجلس الأمن عام 2008، واستغل نظام القذافي هذه الفرصة لتحسين صورته وتقديم نفسه “شريكا موثوقا” للغرب وتعزيز حضوره الدبلوماسي.

فقد قدم النظام الليبي آنذاك نفسه وسيطا في النزاعات الأفريقية، واستضافت ليبيا عام 2007 مفاوضات السلام بين الحكومة السودانية وحركات التمرد في إقليم دارفور غربي البلاد، كما نجحت في التوسط لوقف إطلاق النار بين تشاد والسودان عام 2008 بعد صراع حدودي دام.

في ظل هذه التحولات الجذرية انتقلت ليبيا من مشروع سري للتسلح النووي إلى تعاون علني مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية من أجل إنشاء مفاعلات نووية مدنية لأغراض سلمية، تعاونٌ توج في عام 2007 بتوقيع اتفاقية مع الوكالة لتشغيل مركز البحوث النووية في تاجوراء، وأصبح مؤسسة بحوث متخصصة في مجال التطبيقات السلمية للطاقة الذرية، بمساعدة تقنية روسية وفرنسية، بهدف تطوير الطب النووي وإنتاج النظائر المشعة للأغراض الطبية.

وشكّل اندلاع الثورة الليبية يوم 17 فبراير/شباط 2011 نقطة تحول مصيرية للمشروع النووي الليبي، إذ توقف العمل به بشكل كامل نتيجة تداعيات الأحداث، ومع تصاعد الأعمال المسلحة، تم إخلاء الموقع من الخبراء الأجانب خوفا على سلامتهم.

كما تعرضت بعض منشآته لأضرار مادية أثناء الاشتباكات المسلحة التي شهدتها العاصمة طرابلس ومناطق أخرى من البلاد، الأمر الذي دفع الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى تعليق تعاونها مع ليبيا بسبب انعدام الاستقرار الأمني وغياب سلطة مركزية معترف بها دوليا.

البرنامج النووي الليبي تم تفكيكه نهاية عام 2003 (رويترز)

عودة إلى دائرة الضوء

عاد البرنامج النووي الليبي إلى الواجهة بشكل مفاجئ في مارس/آذار 2023 عندما أعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية اختفاء 10 براميل تحتوي على حوالي 2.5 طن من اليورانيوم الطبيعي (الكعكة الصفراء) من مستودع غير مؤمن بشكل كاف في جنوبي ليبيا، في منطقة قريبة من الحدود التشادية.

وجاء الإعلان بعد زيارة تأخرت عاما كاملا لمفتشي الوكالة بسبب الظروف الأمنية المضطربة في المنطقة، إذ اكتشفوا فتحة في جدار المستودع تسمح بمرور برميل واحد، مما أثار تساؤلات حول سرقة محتملة.

وفي تطور سريع، أعلنت قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر العثور على البراميل المفقودة بعد 24 ساعة فقط من الإعلان عن اختفائها على بعد 5 كيلومترات من الموقع الأصلي باتجاه تشاد، وسط تكهنات بأن مجموعة تشادية قد سرقتها ظنا أنها تحتوي على أسلحة تقليدية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى