عادت قضية انتقال قادة حماس إلى دول أخرى للبروز ثانية بعد الضجّة الإعلامية التي أثارتها صحيفة “WSJ” الأميركية، بأنّ القيادة السياسية للحركة تبحث احتمال نقل مقرّها من الدوحة إلى دولة أخرى، وذلك بسبب ما قالت؛ إنها الضغوط التي يمارسها أعضاء في الكونغرس الأميركي على قطر لمطالبتها بإجبار حماس على الموافقة على التصور الإسرائيلي لصفقة الأسرى.
وتزامن ذلك مع إعلان قطر أنها تجري تقييمًا شاملًا لوساطتها، ومع زيارة قام بها وفد قيادي برئاسة إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحماس إلى تركيا، الأمر الذي أعطى هذه الإشاعات زخمًا لفت الأنظار عن التشدد الإسرائيلي في مواضيع الصفقة.
ضغوط إسرائيل.. وموقف قطري
وقد سارعت قيادة حماس لنفي هذه الأخبار، خصوصًا أن الرئيس التركيّ أردوغان وجّه الدعوة لها لزيارة تركيا قبل فترة من إعلان قطر، إعادة النظر بوساطتها. ولكن اللافت أن مثل هذه الإشاعات – التي ينقلها الإعلام المقرّب من حكومة الاحتلال – تخرج بعد كل مرحلة تصل فيها المفاوضات إلى التأزم؛ بسبب موقف نتنياهو الذي لا يريد وقف النار؛ لأن ذلك من شأنه أن يفتح الباب واسعًا أمام محاكمته بالفساد، وبالفشل في 7 أكتوبر/تشرين الأول!
كما يريد نتنياهو من بثّ هذه الأخبار الكاذبة إظهار أن حماس هي التي تتسبب بتعطيل المفاوضات، وذلك ضمن محاولاته المستمرة؛ لتضليل جمهوره، والتعمية على موقفه الحقيقي الذي لا يريد التوصل لهدنة.
وللموضوعية، فقطر لا تزال تتمسك بالوساطة، ولكنها تقوم بحركة ذكية تهز بها الوضع، وتحث الولايات المتحدة على ممارسة ضغوط حقيقية على نتنياهو للتراجع عن موقفه، بعد أن أبدت حماس مرونة عالية في المفاوضات، مع تمسكها بالانسحاب الإسرائيلي وعودة النازحين إلى الشمال. بل وربما خدم هذا الموقف إدارة بايدن التي قد تستخدمه للضغط على نتنياهو!
كما يريد نتنياهو ممارسة الضغوط على قطر لتمارس نفوذها على حماس، باعتبار أنّ الدوحة تمنح الإقامة لقيادتها، وهو الدور الذي ترفضه قطر، وتصرّ على ممارسة دور الوسيط النزيه. ولكن نتنياهو يدرك أيضًا أن مغادرة قيادة حماس لقطر قد تؤدي إلى وقف مفاوضات الأسرى، وهو ما سيضرّ بالصورة التي يريدها نتنياهو لنفسه!
تحدي الاستئصال
وليس هذا هو عنوان المقال الذي يتعلق بحماس وخيارات وجودها في الشتات ومستقبل هذا الوجود في ضوء إفرازات طوفان الأقصى. فبصرف النظر عما دار في خلد مخططي طوفان الأقصى، فقد قضى ذلك على أي إمكانية لتعايش الاحتلال مع حماس التي كانت تحكم قطاع غزة، والتي كان يتعامل معها الإسرائيلي كأمر واقع، ما دامت أنها لم تشكل تهديدًا وجوديًا للكيان.
فرغم تمسك حماس بالمقاومة ورفض وجود الاحتلال، ورفض فكرة القبول به عبر اتفاقية سلام كما فعلت السلطة الفلسطينية في رام الله، فإنها حاولت في ظل حالة الانقسام الفلسطيني السياسي والجغرافي منذ العام 2007 الموازنة ما بين تحقيق الأسباب المعيشية لفلسطينيي غزة، واستمرار المقاومة، الأمر الذي كان يقتضي المراوحة بين الحرب والتهدئة مع الاحتلال، وصولًا لهجمة 7 أكتوبر/تشرين الأول التي أرادت من خلالها امتلاك أوراق ضغط جديدة؛ لإجبار الكيان على مبادلة الأسرى والتوقف عن انتهاك الحقوق والمقدسات الفلسطينية.
ولذلك، فإن مرحلة ما بعد طوفان الأقصى ليست كما قبلها، فقد أصبح هناك حرب صفرية بين إسرائيل وحماس، ولم يكتفِ الاحتلال بالحرب الطاحنة التي يشنها في غزة، بل شنَّ حربًا لا تقل شراسة على حماس في الضفة الغربية؛ بهدف اقتلاعها واجتثاثها حتى وصل عدد المعتقلين في سجونه نحو 10 آلاف فلسطيني، بالإضافة للآلاف من المعتقلين في غزة، وأرفق الاحتلال ذلك بتهديدات بالاغتيال لقادتها السياسيين الموزعين بين قطر وتركيا ولبنان، فضلًا عن التواجد في بعض البلدان العربية.
ومن هنا، فإن تحدي الاستئصال لحماس شمل جميع ساحات وجودها داخل وخارج الأرض المحتلة، وإن امتاز بالكثافة والشمولية في غزة والضفة، والانتقائية واستهداف وجودها السياسي خارج الأرض المحتلة.
وللتاريخ، فإن قيادة حماس في الخارج لم تتمكن من الاستقرار في ساحة محددة منذ نشأة الحركة عام 1987، فقد كانت بواكير وجود مكتبها السياسي في الأردن، إضافة إلى لبنان مع موجة الإبعاد عام 1992، قبل أن تضطر لمغادرة الأردن عام 1999 على إثر اعتقال القيادة الأردنية عددًا من أعضاء المكتب.
وقد عقد الأردن اتفاقًا مع قطر لاستقبالهم برعاية وقبول أميركيين؛ خشية توجههم لإيران!
ولكن الحركة نقلت بعد ذلك ثقلها السياسي إلى سوريا ولبنان، قبل أن تضطر للعودة لقطر عام 2012 بعد اندلاع الثورة السورية، حيث ارتأت أنها لا تستطيع الحفاظ على الحياد في ظل مطالبة النظام لها باتخاذ موقف مناهض للثورة.
ومنذ ذلك الحين، عملت قيادة الحركة على توزيع ثقلها القيادي ما بين قطر وتركيا إضافة للبنان، فضلًا عن احتفاظها بتمثيل سياسي في إيران ولبنان والجزائر والسعودية، وذلك قبل أن تتعرض كوادرها، ومن بينهم ممثلها السابق لحملة اعتقالات في السعودية.
وتشكل هذه الحالة جزءًا لا يتجزأ من حالة الشتات الفلسطيني الذي لم يستقر على بلد معين، حيث تجد اللاجئين والنازحين منه يتنقلون في شتى بقاع الأرض؛ بحثًا عن الرزق والاستقرار.
تهديد الاغتيال
وتشكل مرحلة ما بعد طوفان الأقصى، تحديًا جديدًا لقيادة حماس في الشتات، حيث إن رأسها أصبح مطلوبًا بتهديدات الاغتيال الإسرائيلي، فضلًا عن احتمال تغير الظروف الجيوسياسية التي قد تدفع هذه القيادة لإعادة التموضع في المنطقة.
ويبدو أن تغيير تواجد قيادة حماس في قطر ليس موضوعًا على الطاولة في هذه المرحلة، إذ إن حاجة الاحتلال لوجود هذه القيادة لا تزال قائمة، وذلك ما عبرت عن أهميته مصادر سياسية إسرائيلية بعد التقارير عن احتمال نقل حماس مقرَّ قيادتها السياسية من قطر، بالقول؛ إنه لا يوجد بديل عن قطر في مفاوضات التبادل.
كما أن إدارة بايدن ما زالت تضع ثقتها بالوساطة القطرية التي سبق لها أن حققت نجاحات في لبنان والسودان واليمن وأفغانستان. ولكن ذلك لن يمنع هذه الإدارة أن تستجيب للمطالب الإسرائيلية بعد انتهاء عملية المفاوضات، وتطلب من قطر إخراج قادة حماس من أراضيها.
وبالتأكيد فإن واشنطن لن تقبل بقيام الاحتلال باغتيال قادة حماس في قطر، الأمر الذي سيؤدي لمغادرتهم لمكان آخر.
شتات جديد
وفي هذا السياق، جاءت زيارة وفد قيادي رفيع لتركيا واحتفاء أردوغان بهم بعد أن وصف حماس بأنها حركة تحرر وطني على طراز حركة المقاومة التركية التي حررت الأناضول. إذ يؤشر ذلك إلى البديل المستقبلي الجديد لقادة حماس التي يتواجد جزء من قادتها أصلًا في إسطنبول. ولكن هذا البديل ينطوي على مخاطر مستقبلية في حالة تغير الرئيس في الانتخابات المقبلة أو حتى خسارة حزب العدالة والتنمية!
وتشكل إيران بديلًا آخر ربما يكون أكثر استقرارًا لقيادة حماس، ولكن الحركة ستفضل تجنب هذا الخيار حتى تحافظ على قاعدتها السنية بعيدًا عن اتهامات سابقة لها بالتحالف مع إيران وأتباعها، وهي الاتهامات التي تم تفنيدها بعد أن تأكد أن معركة طوفان الأقصى قد تم تصميمها وتنفيذها بأيادٍ فلسطينية خالصة.
أما البديل الآخر فهو سوريا التي حظيت فيها حماس برعاية ذهبية على يد النظام السوري منذ الخروج من الأردن عام 1999 وحتى انطلاق الثورة السورية عام 2011. إلا أن هذا الخيار لا يبدو ناضجًا حتى الآن في ظل استمرار تحفظ النظام على وجود مكثف لقيادات الحركة هناك، حتى بعد استعادة العلاقة بين الطرفين في أكتوبر/تشرين الأول 2022.
أما لبنان، فستظل ساحة مفتوحة للتواجد، ولكنها ساحة ذات خطورة أمنيًا، كما أنها مرهونة بالنفوذ الإيراني، وقد لا تصلح لوجود قيادي ثقيل فيها.
ولا شك أن الشكلَ الذي ستنتهي إليه القيادة السياسية في غزة، وطبيعةَ القيادة والمرجعية الفلسطينية التي ستتشكل بعد انتهاء معركة غزة، سيؤثران بشكل أو بآخر على تموضع حماس في قيادة الفلسطينيين في الداخل والخارج.
ونستحضر هنا شهادات مسؤولين استخباراتيين وعسكريين في الولايات المتحدة الذين أكدوا لصحيفة نيويورك تايمز أن “القتال مع حماس قد يستمر لسنوات عديدة أخرى، وأن على إسرائيل أن تدرك أنها لن تكون قادرة على تدمير حماس بشكل كامل، وأن تكتفي بقدرتها على منع مذبحة أخرى مثل تلك التي حدثت في 7 أكتوبر/تشرين الأول”، وأن المقاومة الفلسطينية ليست مجرد بنية مادية، بل فكرة، وعلى الرغم من الدمار الكبير الذي ألحقته إسرائيل بغزة، فمن المرجّح أن العديد من سكان القطاع ينتظرون الانضمام إلى القتال”.
وقد تفرض معطيات المعركة أشكالًا مختلفة من العمل التنظيمي لقيادة الحركة في الداخل والخارج، بما في ذلك تحدي وحدة القرار والتحكم والسيطرة، ولكنها ستحافظ على استقلاليتها كما أثبتت ذلك من قبل، وستظل تتمتع بحيويتها ودورها الريادي في القضية الفلسطينية. وسيكون طوفان الأقصى هو حالة انبعاث حقيقية للقضية الفلسطينية، ومقدمة حقيقية لمعركة التحرير، وسيكنس اتفاقات التسوية والاستسلام للعدو التي تورطت فيها القيادة الفلسطينية، وخاضت فيها مرحلة تيه وضياع فقدت فيها البوصلة، وتآمرت على المقاومة.
وربما نشهد في المرحلة المقبلة تغيرات في المنطقة قد تفرز وفرة في خيارات تموضع قيادة المقاومة في الخارج على اعتبار التأثيرات الإيجابية المتوقعة لطوفان الأقصى.