واشنطن- قبل أكثر من نصف قرن، عصفت حركة احتجاجات طلابية بمختلف الجامعات الأميركية. ولم ينتبه الشعب لحجم غضب شبابه حتى استدعي الحرس الوطني لولاية أوهايو لفض مسيرة بحرم جامعة كينت الحكومية في الرابع من مايو/أيار 1970 تعارض التورط المتزايد في حرب فيتنام، وقصف كمبوديا، وكذلك احتجاجا على وجود الحرس في الحرم الجامعي وقيامهم بتجنيد الطلاب.
وقُتل 4 طلبة وأصيب العشرات، مما ممثّل نقطة تحول رئيسي في المزاج العام الأميركي ضد الحرب، ودفع لاحقا بالرئيس ريتشارد نيكسون لتكليف وزير خارجيته هنري كيسنجر بالعمل على إنهائها.
مرحلة جديدة
ومنذ عملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وما تبعها من عدوان إسرائيلي مدعوم أميركيا على قطاع غزة، خلّف 34 ألف شهيد وأكثر من 100 ألف مصاب فلسطيني، تشهد الجامعات الأميركية، خاصة النخبة منها، حراكا شبيها بحراك حرب فيتنام بهدف وقف الدعم الأميركي للاحتلال، ووقف التعاون العلمي والبحثي بين جامعات المحتجين وإسرائيل، وسحب أي استثمارات فيها.
وبدأت مرحلة جديدة من الاحتجاجات الطلابية في الانتشار من قلب جامعة كولومبيا، بمدينة نيويورك، وذلك عقب استدعاء رئيسة الجامعة، نعمت شفيق، للشرطة المدنية من أجل فض اعتصام طلابي احتجاجي سلمي، وفق ما ذكرته في جلسة استماع بمجلس النواب الأميركي.
وبعد اعتقال 108 من الطلاب، امتدت الاحتجاجات الغاضبة من داخل جامعة كولومبيا إلى عدد كبير من الجامعات الأميركية، وأخرى حول العالم.
والأربعاء الماضي، تحدث مايك جونسون، رئيس مجلس النواب الأميركي، من قلب الجامعة إلى الطلاب اليهود، وطالب بوقف ما اعتبره تهديدا لهم ومواجهة ما وصفه بانتشار “معاداة السامية” في حرم الجامعات.
وتعهد جونسون بدفع الرئيس جو بايدن لاستدعاء الحرس الوطني لطرد النشطاء من الحرم الجامعي، وقال وسط صيحات استهجان مستمرة من الحشد إن “هناك سلطة تنفيذية، وإذا لم يتم احتواء ذلك بسرعة، وإذا لم تتوقف هذه التهديدات والترهيب، سيكون ذلك مناسبا لاستدعاء الحرس الوطني”.
قمع واضطهاد
يحاول أنصار إسرائيل ولوبياتها ومنظماتها المتنوعة والمنتشرة في أرجاء الولايات المتحدة، إسكات أي صوت معارض للرواية الإسرائيلية، أو يدين هجمات الاحتلال على سكان قطاع غزة، أو حتى من يطالبون بوقف إطلاق النار.
ويُذكّر ذلك بمناخ فترة المكارثية في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي؛ التي تميزت بالقمع السياسي والاضطهاد لليساريين وسط حملة تنشر الخوف من التأثير الشيوعي والسوفيتي المزعوم على المؤسسات الأميركية.
وتطبيقا للمكارثية الحديثة، منعت جامعة جنوب كاليفورنيا “أسنا تبسم”، وهي طالبة مسلمة متفوقة، من إلقاء خطاب التخرج بعد أن تلقت شكوى من جماعات طلابية مؤيدة لإسرائيل. وتتمثل كل اتهاماتها في الارتباط بصفحة على منصات التواصل الاجتماعي تنتقد الصهيونية باعتبارها “أيديولوجية استعمارية استيطانية عنصرية”.
وعلى صفحات “وول ستريت جورنال”، اتهم الكاتب آيرا ستول المتظاهرين المناهضين لإسرائيل بتقاضي رواتب مقابل القيام بذلك. وفي نسخ لما تقوم به ديكتاتوريات العالم الثالث، واتهم الكاتب المنح المالية لمؤسستي روكفلر وجورج سوروس بدعم أولئك الذين يعطلون حرم الجامعات ماليا.
وتساءل “هل تريد عائلتا روكفلر وسوروس استخدام أموالهما للدفاع عن أهداف حركة المقاومة الإسلامية (حماس) الحربية؟ ولتنفيذ أجندات خاصة؟ يجب أن ينظروا في ذلك بأنفسهم”.
وحث الكاتب الكونغرس وسلطات إنفاذ القانون على فحص السجلات المالية لهذه المنظمات، وإن كانت هذه المنح تناسب الأغراض الخيرية المحددة في قانون الضرائب.
من ناحيته، قال موقع كولومبيا الإلكتروني إن هدف الجامعة هو تثقيف الأجيال القادمة، وخلق المعرفة التي ستدفع البشرية إلى الأمام، والاستثمار في المجتمع، محليا وعالميا. وأضاف أنها ستعلم الطلاب كيفية التفكير، وليس ما ينتهي إليه تفكيرهم.
لكنها وعلى مدى الأشهر القليلة الماضية، قيدت الجامعة تدريجيا النشاط المؤيد للفلسطينيين في الحرم الجامعي، وبلغت ذروتها في تحرك الشرطة الصارم الأسبوع الماضي.
حق دستوري
وعلى عكس بعض الدول الأوروبية، تعد معارضة إسرائيل في الولايات المتحدة حقا يحميه الدستور، وكل الأفراد أو الجماعات أحرار في التعبير عن آرائهم حول هذه القضية، أو أي قضية أخرى دون خوف من أية عواقب قانونية، إذ يضمن التعديل الأول للدستور حرية التعبير والحقّ في الاحتجاج السلمي أو التظاهر.
وهذا التعديل الأول هو تعديل لنص الدستور الأصلي الذي يتضمن منع صياغة أي قوانين تحد من حرية التعبير، أو التدخل في حق التجمع السلمي. وتم اعتماده كواحد من 10 تعديلات تشكل وثيقة الحقوق في 15 ديسمبر/كانون الأول 1791.
وعلى مدار العقود اللاحقة، توسعت حقوق التعبير بدرجة كبيرة من خلال سلسلة من قرارات المحاكم الفدرالية والمحكمة العليا، والتي حمت مختلف أشكال الخطاب السياسي، من الحملات الانتخابية والمواد الإباحية إلى الخطاب التعليمي والمواد الدعائية.
وداعمًا حقّ الطلاب في التظاهر، قال منسق الأمم المتحدة لحرية التعبير على منصة إكس، “بما أن 100 طالب اعتُقلوا بسبب ممارستهم حقهم في التجمع دعما لفلسطين، فإنني أذكر جامعة كولومبيا باحترام الحريات الأكاديمية والحقوق الأساسية للطلاب. الحق في التجمع هو مفتاح الناس للتحدث علنا ضد الظلم ومن أجل السلام”.
التاريخ والاحتجاجات
يرى البعض أن استدعاء قوات الشرطة والحرس الوطني لاعتقال الطلاب المحتجين ينتهك مبادئ حرية التعبير المقدسة للحياة السياسية في الولايات المتحدة، ووضعية المؤسسات الأكاديمية المستقلة.
وفي مقال لمجلة “لندن ريفيو أوف بوكس”، يقول أستاذ اللغة الإنجليزية في جامعة كولومبيا بروس روبنز (وهو يهودي) إن الخطاب المؤيد للفلسطينيين قد تم إسكاته.
ويسلط روبنز الضوء على الحاجة إلى التمييز بين الأعمال الحقيقية لمعاداة السامية، والتي كانت قليلة جدا، وبين قلق أو انزعاج الطلاب اليهود الذين أُجبروا، ربما لأول مرة، على مواجهة حقيقة أن الكثير من العالم لا يوافق على ما تقوم به إسرائيل.
وتساءل “كيف سيتذكر التاريخ الاحتجاجات في كولومبيا والجامعات الأخرى؟ كيف نشعر حيال العصيان المدني في الوقت الحالي وكيف سنشعر به بعد سنوات؟ هل يمكن فهم الحركات الاحتجاجية حقا في وقتها الحالي، أم أن الأمر يستغرق مرور سنوات حتى تتضح آثار العصيان المدني على المجتمع؟”.
وعكست هذه الأسئلة خبرة تجربة احتجاجات فيتنام، حيث ثبت لاحقا صحة موقف وحكمة حسابات الطلاب.
ويبقى سؤال مهم، وهو كيف سيشكل هذا الجيل وهذه الأحداث مستقبل وموقف أميركا من صراع شابه الانحياز لما يزيد عن 75 عاما؟ وهل سيغير الطلاب المتحمسون للتظاهر والاحتجاج مواقفهم عندما يكبرون عمريا وينتقلون لفئة سنية أقل حماسا وأكثر واقعية في المستقبل؟.