“أنا فاغنر” (Je Suis Wagner)، هكذا قُرِأت على القُمصان التي ارتداها رجال الأمن في مدينة بانغي، عاصمة جمهورية أفريقيا الوسطى، قبل حوالي عاميْن ونيِّف، في مشهد فريد من نوعه على أي مؤسسة عسكرية أو أمنية في العالم. ولكن في هذا البلد الصغير الذي تصل فيه معدلات الفقر إلى أعلى مستوياتها في القارة الأفريقية، وتتمزَّق البلاد بسبب غياب دولة مكتملة التأسيس وانتشار الجماعات المسلحة داخل مساحة رسمها الاستعمار الفرنسي في المقام الأول دون أن يجد لها اسما سوى “أفريقيا الوسطى”؛ ليس صعبا أن يفعل النظام الحاكم ورجاله أي شيء من أجل إثبات سلطانهم الهش وحماية ثرواتهم الموجودة في باطن الأرض، ولو كان التدثُّر بمليشيا روسية دموية مثل فاغنر.
لم يمض على وجود فاغنر في جمهورية أفريقيا الوسطى سوى بضع سنوات، لكن المليشيا الروسية قطعت أشواطا كبيرة في ترسيخ وجودها داخل البلد الغني بالذهب والألماس والأخشاب، وهي ثروات تساعد موسكو على الفكاك من العقوبات الغربية وتمويل آلة حربها المستمرة في أوكرانيا منذ شهر فبراير/شباط 2022، كما تساعد النظام الحاكم لجمهورية أفريقيا الوسطى على إبقاء جيوبه دافئة، وشراء ولاءات رجاله، وكذلك على إيجاد كيان هشّ يُمكن أن يُطلق عليه دولة أمام المجتمع الدولي.
بيد أن ما حققته فاغنر والنظام في بانغي لا يضاهي ما حققه الشاب الروسي الذي يرعى شبكات فاغنر في البلد الأفريقي، حيث انتقل الرجل من شاب روسي يبحث عن وظيفة في قطاع تكنولوجيا المعلومات على موقع “لينكد إن” الشهير، إلى ملياردير و”سياسي” روسي في أعوام معدودة. لم يكُن غريبا أن تغيَّرت كذلك القمصان التي بدأ يوزِّعها مركز موسكو الثقافي في البلاد، المعروف باسم بيت روسيا، من تمجيد فاغنر في البداية، إلى تمجيد الشاب الروسي بشخصه في نهايات العام الماضي، حيث انتشرت قمصان تحمل صورة “دميتري سيتي”، الذي أتمَّ عامه الخامس والثلاثين نهاية شهر مارس/آذار الماضي.
بلد الدم والألماس
حصلت جمهورية أفريقيا الوسطى على استقلالها عن فرنسا عام 1960، وترأسها ديفيد داكو بفضل الدعم الفرنسي، وتحوَّلت البلاد في عهده إلى مصدر ثمين لتجارة الألماس، وأغلبها عبر وسائل غير مشروعة تربَّح منها النظام والأجانب. وقد أطاح انقلابٌ عسكري بالرجل عام 1965، وأتى بالعقيد بوكاسَّا الذي نجح نظامه العسكري في قمع المعارضة بدعم باريس. بحلول السبعينيات، بدا أن بوكاسَّا قد وثق بسلطانه واغترَّ به إلى حد إعلان نفسه “إمبراطورا” للبلاد، ففرضت الولايات المتحدة العقوبات عليه، واضطُرت فرنسا نفسها إلى إصدار عقوبات هي الأخرى. عاد داكو إلى الرئاسة بمساعدة فرنسا عام 1981، ولم يَكَد يُكمِل عامه ذاك في السلطة حتى انقلب عليه الفريق كولينغْبا، الذي حكم البلاد حتى عام 1993، حين خسر في انتخابات ديمقراطية أمام الرئيس باتاسيه. وبعد ثلاث سنوات، اندلعت انتفاضة ضباط ضد الرئيس الجديد، وتدخَّلت فرنسا لصالحه، لكن الصراع امتد لسنوات توسَّطت أثناءها أطراف عديدة دون فائدة.
أصبح البلد الصغير إذن من أفقر بلدان القارة وأكثرها اضطرابا، وزاد الطين بلَّة انقلاب الفريق بوزيزيه عام 2003، فانهالت عليه العقوبات الأميركية والأوروبية والأفريقية، قبل أن تُرفع تدريجيًّا في غضون ثلاثة أعوام كما جَرَت العادة. وقد اندلع الصراع الأشد بين النظام وأعدائه عام 2012، حين تشكَّل تحالف سيليكا من عدد من فصائل المعارضة، وغلب عليه المُسلمون الذين يُشكلون أقلية في البلاد، ونجح في السيطرة على مدن مهمة، وإيصال المُسلِم ميشيل جوتوديا إلى الرئاسة ليبقى فيها مدة عام واحد تقريبا، قبل أن تتدخَّل فرنسا لصالح النظام مع مليشيا “أنتي بالاكا” ذات الأغلبية المسيحية، وتعيد سيطرة النظام على المناطق المهمة. وأخيرا، في عام 2016، فاز فوستين-أركانج تواديرا برئاسة البلاد، التي ظلت سيطرة النظام عليها حتى اليوم غير مُكتملة ومرتكزة إلى الجنوب الغربي حيث تتركَّز مناجم الذهب والألماس.
يُقدر البنك الدولي أن نسبة كبيرة تتراوح بين ثلث ونصف تجارة الألماس تُهرَّب عبر قنوات غير شرعية، تمامًا كما كانت منذ استقلال البلاد في الستينيات، وهي تجارة تُبقي النظام في السلطة وتُبقي حلفاءه إلى جانبه، على حساب الملايين الخمسة الذين يُشكلون تعداد البلد الفقير في قلب أفريقيا. قبل حوالي سبع سنوات، أعلنت فرنسا إنهاء دورها العسكري في البلاد دون أن تحسم الصراع لصالح بانغي، ومن ثمَّ قرر تواديرا دعوة مليشيا فاغنر الروسية لمساعدته على حكم البلاد، فرحَّبت بذلك نظرا لحاجة روسيا المُلِّحة إلى مصادر دخل غير مشروعة بعيدة عن العقوبات الغربية. ولذا توطَّدت العلاقات سريعا بين بانغي وفاغنر، وكان ذلك بفضل الشاب دميتري سيتي، الذي كوفئ من تواديرا أيَّما مكافأة.
يعيش سيتي اليوم داخل قصر ضخم في وسط بانغي كان في السابق قصرا رئاسيا، ويُدير من داخله نشاطات فاغنر العسكرية والاقتصادية والدعائية في منطقة وسط أفريقيا كلها، كما يحيط به وقَصْره معسكر لجيش أفريقيا الوسطى يحتله في الواقع مقاتلو فاغنر. ويتحرَّك سيتي داخل البلد الأفريقي الصغير بسيارة تويوتا ذات دفع رباعي من نوع “SUV” بدون لوحات ترخيص، متجولا بأريحية ومُتمتِّعا بحياة من الترف والبذخ لعل رئيس البلاد نفسه لا يملكها. غير أن حياته ليست بمأمن عن أعداء بانغي، وهُم كُثر، بدءا من الجماعات المسلحة المناوئة للعاصمة التي لا تزال تسيطر على مساحات متفرقة من الشمال الشرقي للبلاد، حتى أعداء جمهورية أفريقيا الوسطى الإقليميين مثل دولة تشاد، وصولا إلى فرنسا، الخصم الأبرز للدور الروسي في أفريقيا.
في ديسمبر/كانون الأول 2022، بدا أن أحد هؤلاء الأعداء قد قرر إرسال رسالة عنيفة إلى الشاب الروسي. فقد خرج بريغوجين متوعِّدا الفرنسيين ومُحمِّلا إياهم مسؤولية الوقوف وراء محاولة اغتيال سيتي، وقال إن فرنسا مسؤولة عن تفخيخ طرد بريدي أصاب رفيقه في يده وصدره، وجعله في حالة صحية حرِجة نُقِل على إثرها إلى مستشفى بالعاصمة بانغي ثم إلى موسكو، حيث أنقذ الأطباء حياته. “قبل أن يفقد وعيه، قال سيتي إنه رأى ورقة كُتِب عليها: هذه لك من كل الفرنسيين. كل الروس سيخرجون من أفريقيا”، هكذا تحدَّث بريغوجين.
كان سيتي مهما لبريغوجين ونشاطاته في القارة، ولذا زاره أثناء علاجه، وشارك صورة له وهو يستلقي على سرير المستشفى وتظهر يده اليمنى مُغطاة بالضمادات ومن حوله هدايا عيد الميلاد وصورة للرئيس تواديرا. نجا سيتي بأعجوبة دون ضرر بالغ، سوى ثلاثة أصابع أودى بها الطرد المُفخَّخ، لكنه أصرَّ على العودة إلى البلد الأفريقي بعد علاجه، إذ يظهر بين الفينة والأخرى ويلوِّح لأنصاره بيَدِه مُرتديًّا قفازًا أسود يُخفي آثار الحادث، ويُظهِر في الوقت نفسه إصرارا روسيا على الحضور في بانغي ونيل نصيب من ثروات القارة المنهوبة.
من “لينكد إن” إلى “بيت روسيا”
وُلِد دميتري سيتي في مارس/آذار 1989، وأنهى تعليمه الجامعي بمدينة سانت بطرسبرغ بشهادة من كلية التجارة، ثم حصل على درجة الماجستير في التسويق وتطوير الأعمال من جامعة في العاصمة الفرنسية باريس حيث تعيش أسرته إلى اليوم، ودرجة أخرى في الإدارة الثقافية من جامعة كتالونيا الدولية بإسبانيا عام 2012. بسيرة ذاتية لامعة وأربع لغات هي الروسية والإنجليزية والفرنسية والإسبانية، أطلَّ سيتي برأسه عبر موقع “لينكد إن” الشهير منذ أكثر من عشر سنوات، وكتب أنه “مهتم بالعمل مع شركة دولية في قطاع التكنولوجيا بحيث تختبر مهاراتي وكفاءاتي بمهام مثيرة”. كان أول من يلتفت إلى الشاب المُتحمِّس هو بريغوجين عن طريق إحدى شركاته، ومن ثمَّ بدأت طموحات سيتي تتحقَّق بأسرع مما تخيَّل.
التحق سيتي بالعمل في وكالة أبحاث الإنترنت “إم إنفيست” (M Invest)، إحدى شركات بريغوجين النشطة في السودان، وهو عمل يُرجَّح أنه منشأ العلاقة بين سيتي ومؤسس فاغنر، إذ إن بريغوجين وثَّق علاقته بالشاب الطموح سريعا، فأرسله إلى بانغي للعمل مترجما فوريا لعُمال المناجم عام 2017. وبعد وصوله بأشهر معدودة تعاون سيتي مع أحد قادة فاغنر من أجل تأسيس شركة “لوبايِه إنفيست” (Lobaye Invest)، وهي شركة حصلت على إذن بالتنقيب عن الذهب والألماس في البلاد لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد بدءا من يونيو/حزيران 2018. ولم يكتف سيتي بذلك، بل أشرف على توطين صناعة الفودكا الروسية في البلد الأفريقي، حيث تنتشر اليوم إعلانات في العاصمة عن الكحوليات “المصنوعة في جمهورية أفريقيا الوسطى بتكنولوجيا روسية”.
إضافة إلى شبكة أعماله تلك، كان سيتي مسؤولا عن إستراتيجية الإعلام الروسي في بانغي، حيث وفَّر تمويلا لأول محطة إذاعية باسم “لوبايه”، وأدار حملات وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي التي تمولها فاغنر والمُوجَّهة ضد المصالح الغربية. وقد عمل سيتي على توجيه الخط التحريري للعديد من وسائل الإعلام في البلاد، مثل راديو “لينغو سونغو” (Lengo Songo)، لصالح الدعاية الروسية، مُستخدما في ذلك المشاعر المُعادية لفرنسا في القارة الأفريقية بسبب تدخُّلها العسكري الكارثي في منطقة الصحراء الكُبرى، وتاريخها الطويل من السياسات الاستعمارية في القارة.
في سبتمبر/أيلول 2020، بعد ثلاثة أعوام فحسب من وجوده في بانغي، كان سيتي قد لفت الأنظار بما يكفي، لا سيَّما بعد دخوله في شراكة مع شركة “إم فينانس” (M Finans) المملوكة لفاغنر، فقرَّرت وزارة الخزانة الأميركية أن تضع اسمه على قوائم عقوباتها المالية، إلى جانب شركتيْ إم فينانس ولوبايِه إنفيست النشطتين في بانغي. وكان في قائمة العقوبات المنشورة حينها اسمان آخران مرتبطان بنشاطات روسيا في جمهورية أفريقيا الوسطى هما اسم يفغيني خودوتوف، مدير شركة لوبايه إنفيست، واسم ألِكساندر كوزين، الذي عمل في عدد من الشركات المملوكة لبريغوجين. ويُتَّهَم هؤلاء بأنهم يدرُّون أرباحا بمليارات الدولارات من التنقيب عن الذهب والألماس في بانغي، وهي تجارة تتم بصورة غير مشروعة معظم الوقت، ويتقاسمها الكرملين لتمويل حرب أوكرانيا مع النظام الحاكم في بانغي.
حصل سيتي على ترقية إلى منصب مدير المركز الثقافي الروسي المعروف بـ”بيت روسيا” في بانغي عام 2021، وهي مؤسسة تهدف إلى توسيع التعاون التجاري والاقتصادي والإنساني بين روسيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، بما في ذلك تعزيز حضور اللغة والثقافة الروسيتين في البلاد. كما يستضيف البيت مركز روسُّوتْرودْنيشيسْتفو (Rossotrudnichestvo)، وهي وكالة فيدرالية روسية تعمل على تمرير المصالح الروسية، وتخفي ذلك وراء ستار المعونات والدعم الإنساني، حيث تقول على منصاتها الرسمية إنها: “معنية بكومنوِلث الدول المستقلة (دول الاتحاد السوفيتي السابق)، ومواطني روسيا الذين يعيشون في الخارج، والتعاون الإنساني الدولي”. وأخيرا، يبدو أن رُوَّاد الفودكا المحلية المصنوعة بخبرة روسية لم يجدوا مكانا أفضل من “بيت روسيا” كي يدشِّنوا خلفه مخازن إنتاجهم من زجاجات الخمر الروسي الشهير، التي لا يشرب منها سيتي على الأرجح، مُفضِّلا الزجاجات الأصلية القادمة من موسكو مباشرة.
من أجل الكرملين أم من أجل فاغنر؟
على بُعد حوالي 60 كيلومترا إلى الشمال من مدينة بامْباري، وعلى ضفاف أحد فروع نهر أوبانغي المتدفق من العاصمة؛ يقع منجم نداسيما للذهب، أحد أكبر المناجم في جمهورية أفريقيا الوسطى. هُنا تجري على قدم وساق أعمال شركة ميداس المملوكة لفاغنر والمُسجَّلة في مدغشقر من أجل استخراج الذهب. لقد استحوذت المليشيا الروسية على المنطقة حين أرسلت مقاتليها إلى هناك عام 2020، وذبحت العشرات من سكان المنطقة لإخراجهم من منازلهم وتطوير المنجم. ولم تسلم بامْباري نفسها من سطوة المرتزقة الروس، الذين يستهدفون ما يعتقدون أنه معاقل ما بقي من تحالف سيليكا، إذ قُتِل مسلمون كُثر ونُكِّل بهم بتُهمة الانتماء إلى سيليكا، كما وقعت مذبحة في أحد الجوامع بيد فاغنر. “لم نرَ جثة واحدة لمقاتل من سيليكا داخل المسجد، لقد كان المقتولون أولادنا”، هكذا تحدَّثت فطُّومة في حوار مع “سي إن إن” عن مذبحة مسجد التقوى التي ارتُكِبَت في مايو/أيار 2021 في بامْباري.
وفقا لصور الأقمار الاصطناعية التي حصل عليها مركز الدراسات الدولية والإستراتيجية (CSIS)، تشهد المنطقة نشاطا كثيفا لإنتاج كميات كبيرة من الذهب، علاوة على استثمارات توحي برغبة الكرملين وفاغنر في البقاء مدّة طويلة. فقد دشَّن الروس جسرا أعلى النهر، ونصبوا تحصينات مع شاحنات من أجل الدفاع الجوي لحماية نشاطاتهم من الاستهداف والتعقُّب. ولم يكن غريبا أن رفضت بانغي مؤخرا منح تصاريح للأمم المتحدة كي تستخدم مُسيَّراتها فوق المنطقة، بل قام عدد من ضباط الجيش باستهدافها بالفعل حين حاولت التحليق فوق نداسيما؛ مما يشير إلى اندماج واضح بين مهام الجيش وفاغنر، على حد وصف مسؤول أمني أميركي لموقع بوليتيكو.
يجري كل ذلك على خلفية تراجع الوجود العسكري الفرنسي في بانغي، إذ أخذت فاغنر تُكوّن شبكة من الأفراد الذين انضموا إلى جهات محلية مختلفة من أجل تنفيذ مشاريع مُربحة للطرفين، ومن ثمَّ بدأت المجموعة الروسية تنتشر سريعا لا سيَّما أنها صارت بالنسبة للنظم الاستبدادية بديلا عن الدعم الفرنسي المتآكل. وقد لعب سيتي دورا في هذا النشاط الروسي المحموم حالما ظهر على الساحة عام 2018، إذ شارك في المناقشات التي أدت إلى توقيع اتفاق السلام بين أطراف النزاع على البلد الأفريقي الصغير، التي عُقِدَت بالخرطوم في فبراير/شباط 2019، لكنه اتفاق سرعان ما انحلَّ في العام التالي، فاتحا الباب أمام المزيد من الدماء والنهب، ولكن هذه المرة تحت مظلة رسمية وبموافقة ضمنية من النظام الحاكم.
عندما عاد دميتري سيتي إلى بانغي في نهاية أبريل/نيسان 2023 بعد انتهاء رحلة علاجه في موسكو، استأنف أنشطته على الفور مع النظام الحاكم، وقد جاءت عودته في سياق مشحون على أكثر من صعيد. أولا، ما يتعلق به شخصيا، إذ كان قد أضيف لتوه إلى قائمة عقوبات الاتحاد الأوروبي. وبحسب الاقتباس الذي أصدرته بروكسل لمعاقبة سيتي وأعضاء آخرين في فاغنر، فإنه “بالنظر إلى موقعه المؤثر في جمهورية أفريقيا الوسطى ودوره القيادي في مجموعة فاغنر، يُعَد مسؤولا عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي ارتكبتها فاغنر في البلاد، وهذه الانتهاكات تشمل التعذيب والإعدامات والقتل خارج نطاق القانون”.
ثانيا، هناك ما واجهته فاغنر آنذاك من اتهامات بدعم محمد حمدان دقلو (حميدتي) قائد مليشيا الجنجويد المعروفة بقوات الدعم السريع، في صراعه مع قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان. وقد زُجَّ باسم سيتي في هذه الاتهامات، لا سيَّما أنه بدأ عمله مع بريغوجين بالمشاركة في وكالة بحوث الإنترنت “إم إنفيست” النشطة في السودان؛ ولذا يعده البعض الآن خبيرا في الأسرار العسكرية السودانية وفيما يتعلق بالنشاط الروسي هناك. وقد رد سيتي على الجولة الجديدة من العقوبات الغربية بتعهده بمواصلة ما بدأه بريغوجين في جمهورية أفريقيا الوسطى، حيث قال بالفرنسية التي يتقنها من سنوات دراسته في باريس: “سنواصل العمل وتنفيذ جميع مشاريعنا تحت قيادة بريغوجين”. بيد أن العلاقة بين بريغوجين والكرملين في حد ذاتها لم تَسِر على ما يُرام كما أريد لها، وكما اعتقد الجميع حينئذ.
لم يكد سيتي يعود إلى بانغي حتى اندلع الصراع الأشد بين موسكو والمليشيا التي صنعتها على عينها، حيث تصدَّعت العلاقة علنا بينها وبين الكرملين وتبادل الطرفان الاتهامات على مرأى ومسمع العالم. في البداية، اتهم بريغوجين القادة العسكريين الروس بتعمُّد تقييد توريد الأسلحة والذخيرة لقواته في أوكرانيا، ثم في تحدٍّ مباشر للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، شنَّ بريغوجين تمرُّدا على الجيش الروسي داخل روسيا نفسها. ومع أن أزمة التمرد لم تدم طويلا، إذ أُعلِن سريعا التوصل إلى اتفاق بوساطة الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشِنكو، فإن سيتي لم ينتظر كثيرا حينذاك، وأعلن انحيازه إلى مُعلِّمه بريغوجين صراحة.
بينما انشغل العالم بمصير فاغنر وزعيمها، نشر سيتي في بانغي صورة لزعيم فاغنر يقف مع ضيف من أفريقيا في فندق ترِزّيني بمدينة سانت بطرسبرغ الروسية، حيث عُقِدَت القمة الروسية الأفريقية الثانية في صيف العام الماضي، في محاولة للتلميح بالدور المحوري الذي أدّاه مُعلِّمه من أجل روسيا ودورها الأفريقي. بعد أسابيع، رافق سيتي رئيسه بريغوجين في جزء من رحلته الأخيرة إلى أفريقيا، حيث ظهر زعيم فاغنر قبل يومين فقط من مقتله في مقطع فيديو قال فيه إنه “يعمل في أفريقيا من أجل تعزيز عَظَمة روسيا في القارة، حيث يُنفِّذ رجاله منذ سنوات ما يُكلفهم به الكرملين”. حضر الاثنان بعدئذ مناسبة نظَّمها “بيت روسيا” ثم التقطا بعض الصور، قبل أن يلقى بريغوجين حتفه إثر حادث سقوط طائرة في أغسطس/آب 2023.
سيتي والكرملين: شعرة معاوية
في أوائل يوليو/تموز الماضي، عندما اشتدت التنبؤات حيال مصير فاغنر عقب تمرد زعيمها، انتشر خبر مغادرة عناصر من المجموعة لقواعدهم في جمهورية أفريقيا الوسطى كالنار في الهشيم. وفي بلاد أخذت تستعد آنذاك لطرح دستور جديد لترسيخ سلطان تواديرا، كان من المفترض أن يؤدي التوتر إلى قلق في صفوف النظام الحاكم، بيد أن رحيل 250 عنصرا من أصل 1200 لم يثر أي مخاوف في صفوف قادة البلاد، وهُم في أمسِّ الحاجة لحماية فاغنر في ظل الانتخابات. بسهولة ويُسر، وبفضل سيولتها المالية الضخمة بالنسبة للظروف الاقتصادية داخل أفريقيا، جنَّدت فاغنر عددا مماثلا من العناصر الجديدة سرعان ما انضمَّ إلى المليشيا، حيث حضر المقاتلون الجدد في شوارع بانغي وجلسوا في المطاعم مع زملائهم القدامى، وقادوا شاحناتهم الصغيرة المُجهَّزة بالمدافع الرشاشة، واستتب الأمر للرئيس تواديرا كما أراد.
في هذه الأثناء واصل سيتي أنشطته بلا هوادة في بلد أصبح يُنظر إليه بوصفه مركز عمليات فاغنر في أفريقيا. وقد شارك سيتي في تنظيم الاستفتاء الدستوري الذي أراده الرئيس تواديرا كي يتمكَّن من الترشح عدة مرات لرئاسة الجمهورية. وفي الأسابيع التي تلت وفاة بريغوجين تعهد سيتي بالحفاظ على إرثه في جمهورية أفريقيا الوسطى وفقا لشريك تجاري لفاغنر ومسؤول أمني أوروبي، فذهب إلى مدينة دوالا في الكاميرون، وهي طريق الخروج الرئيسي للبضائع من جمهورية أفريقيا الوسطى، كما أنها أيضا مقر قناة “أفريك ميديا”، أهم المنابر الإعلامية المؤيدة للحضور الروسي في أفريقيا. وقد صرَّح سيتي حينها لمراسل صحيفة براڤدا الروسية عن مستقبل فاغنر في أفريقيا قائلا “أفترض أنه لم يتغير أي شيء وأننا نواصل العمل”.
كان سيتي يفعل كل ذلك وهو يدرك مدى إصرار الكرملين على إمساك زمام الأمور داخل فاغنر بعد رحيل بريغوجين، إذ أبلغ مسؤولو الحكومة الروسية نظراءهم في جمهورية أفريقيا الوسطى أن عمليات فاغنر في البلاد ستستمر، وأن الكرملين يعتزم استبدال أهم قادة المجموعة. في الواقع، تواجه رغبة الكرملين العديد من العقبات في السيطرة على فاغنر كليًّا، منها إصرار القادة الأفارقة الذين عملوا جنبا إلى جنب مع فاغنر في نهب خيرات البلاد على محاولة إقناع روسيا بالاحتفاظ برجال بريغوجين الذين عملوا معهم سنوات. وبالنظر إلى خبرة رجال فاغنر القدامى، فإن أي محاولات من جانب وزارة الدفاع الروسية لتغيير وحدات فاغنر أو استبدالها بتشكيل مختلف قد تُقلِّل من فعاليتها القتالية في القارة، أو هكذا يعتقد الزعماء الأفارقة المتحالفين مع فاغنر.
إن النظام الروسي في النهاية هو عبارة عن مزيج من المؤسسات والأفراد الذين يضعون مشاريعهم ضمن مصالح الدولة، ويعمل السياسيون فيه على ما يعتبرونه مفيدا لنظام بوتين ولحساباتهم المصرفية في آن واحد. ويمكننا هنا الاستشهاد بالعلاقة بين موسكو وحلفائها في سوريا، ففي البداية قدمت فاغنر إلى سوريا للعمل من أجل الكرملين، ولكن عندما تورطت في تسريع استيلاء تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على مدينة تدمُر، أجبر الكرملين المليشيا على سحب قواتها من سوريا وتسليم أسلحتها للجيش الروسي. غير أن بريغوجين أسَّس بعد وقت وجيز شركة جديدة هي “إفرو بوليس” (Evro Police) التي أعاد من خلالها تدشين مصالح فاغنر الاقتصادية والسياسية في سوريا.
بالنسبة لأفريقيا، ثمَّة مؤشرات تُرجِّح أن فاغنر نجحت في البقاء داخل القارة السمراء رُغم تدخُّلات الكرملين للسيطرة عليها بشكل أكثر مركزية. ويتعلق ذلك بدرجة ما بضعف الدولة الروسية وانشغالها بأوكرانيا وبدرجة أقل بسوريا؛ مما يعني أنها بحاجة إلى أن تعهد لجهة أخرى بإدارة نفوذها في القارة الأفريقية، ومن ثمَّ فإنها تحتاج إلى فاغنر في أماكن مثل بانغي أكثر من حاجة فاغنر إليها. يُضاف إلى ذلك أن فاغنر ليس لديها هيكل ثابت، ولذا من السهل أن تتحوَّل وتتكيَّف بسرعة حسب الظروف تماما كما فعلت في سوريا. يعني ذلك أن فاغنر ستواصل على الأغلب متابعة مشاريعها في أفريقيا، وتأطير جهودها على أنها تعزز “المصالح الوطنية لروسيا”.
“إذا بدأنا في التراجع، فإن كل ما تم بناؤه سينهار”، هكذا تحدَّث سيتي مؤخرا عن دور فاغنر، في تحذير مُبطَّن لروسيا مفاده أن الرهان على فاغنر هو الحل الوحيد لحماية نفوذها في القارة الأفريقية. إن انهيار فاغنر تحت وطأة الصراع مع الكرملين في النهاية يعني خسارة سيتي وخسارة رجاله، وكذلك خسارة موسكو في الوقت نفسه، التي تعلم أن تعثُّر فاغنر بأي شكل ضربة لها وفرصة لإحياء الدور الفرنسي المُتعثِّر في القارة، إذ إن الكرملين لا يسعه في الوقت الراهن أن يستكمل عبر مؤسسات الدولة الروسية نفسها ما بدأه سيتي وبريغوجين بالنيابة عنه وبكُلفة أقل وبشراسة أشد دون إمكانية محاسبة الدولة الروسية على الانخراط المباشر، وهي ميزة مهمة لموسكو.
في نظر الكرملين، الذي يريد الحفاظ على إمبراطوريته الاقتصادية في القارة من أجل مواصلة الحرب -التي تفوق الآن مليار دولار سنويا في جمهورية أفريقيا الوسطى وحدها بفضل تجارة الألماس والذهب والخشب- فإن سيتي هو الرجل المناسب، والملياردير المناسب، كي يتصدَّر المشهد، لا سيَّما بعد رحيل مُعلِّمه الأول، وهو رحيل وسَّع من دور سيتي للمفارقة، لكنه رسم له حدودا جديدة يعلم جيدا أن الثمن إن تعدَّاها لن يكون بضعة أصابع من يده الأخرى فحسب، بل حياته كلها.
يتحرَّك سيتي اليوم بثقة أكثر من أي وقت مضى بسبب تصدُّره المشهد في جمهورية أفريقيا الوسطى، لكنه يتحرَّك بحذر غير مسبوق أيضا بعد أن رأى بأم عينه كيف صارت تبعات إغضاب الكرملين أسوأ كثيرا من تبعات تقويض مصالح الغرب، وعلى الأرجح أن القفاز الأسود الذي يضعه على يده اليُمنى ومصير بريغوجين سيُذكِّرانه بذلك الأمر لوقت طويل.