المواضيع الرئيسيةمقالات

الهجرة السرية.. حقائق الجغرافيا والديموغرافيا / محمد محمود ولد ابو المعالي

خلال الاسابيع الأخيرة اشتعلت بعض صفحات مواقع وسائل التواصل الاجتماعي، وانشغلت بالجدل واللغط حول إشكالية الهجرة غير الشرعية وتزايد أعداد الأجانب في بلادنا، وذلك إثر تسجيل جرائم اتهم فيها مهاجرون غير شرعيين من دول جنوب الصحراء، وبالتزامن مع قيام السلطات الموريتانية بإبعاد المئات منهم خارج الحدود، وشكل ذلك الجدل في قسط غير يسير منه تربصا بالمواقف الرسمية للبلد، وانسياقا وراء حديث “العاطفة الوطنية” غير المتسقة مع حقائق الواقع، وعاد بعضنا أدراجه ثانية ليتحدث عن “الإعلان المشترك” المؤسس للشراكة في مجال الهجرة بين بلادنا والاتحاد الأوربي، وبنفس لا يخلو من مغالطات سبق وأن روج لها إبان توقيع الإعلان المشترك، وذهب آخرون ـ سامحهم الله ـ إلى إعطاء عملية تسفير المهاجرين غير الشرعيين لبوسا عرقيا أو فئويا، دون برهان أو دليل.
صحيح أنه ليس من الإنصاف أن يُعاتَب المرء أو تُسَفه أحلامه، إن هو أوجس في نفسه خيفة على البلد من فوضى المهاجرين السريين ونشرهم للجرائم والعبث بقيم المجتمع وأخلاقه، خصوصا وأنهم أثاروا إشكاليات وأزمات مفزعة على مرمى حجر منا، في بعض الدول من محيطنا الإقليمي، كالجزائر وتونس وليبيا، لكن تلك المخاوف لا تبرر الترويج للسناريوهات الافتراضية ولا الافتيات بالأحاديث المختلقة عن اتفاق ملزم ما أنزل الله به من سلطان، ولم يوقع لا مع الاتحاد الأوربي، ولا مع أي دولة أوربية على حدة.

إعلان لا اتفاق
وتفاديا للوقوع في براثين التخرصات وإلقاء الكلام جزافا على عواهنه، لا مندوحة أمامنا من الإحاطة بحقيقة “الإعلان المشترك”، الذي وقعته بلادنا مع الاتحاد الأوربي،  (البون شاسع بين اتفاقية ملزمة تمر عبر البرلمان، وبين مسودة إعلان مشترك) وذلك بقراءة تركن إلى النزاهة الفكرية والموضوعية المنصفة،  فضلا عن التطرق للعوامل الداخلية والخارجية التي جعلت بلدنا محجا لآلاف المهاجرين غير الشرعيين القادمين من دول الجوار ودول جوار الجوار، مع تجلية الفروق بين أصناف الأجانب المقيمين في بلدنا.
فبخصوص الموقف الحكومي، يجب أن نعلم علم اليقين وأن ندرك أن الحقيقة التي لاريب فيها، هي أن ما تم توقيعه هو مجرد “إعلان مشترك” من عشر صفحات، ليس فيه أي نص ـ لا تصريحا ولا تلميحا ـ يشير إلى أن موريتانيا ستتخذ موطنا مؤقتا أو وطنا دائما للمهاجرين، ولا طريقا لإعادتهم وتسفيرهم إلى بلدانهم، وإنما نص على بعض أوجه التعاون وضرورة تعزيز الإجراءات في مجال محاربة ما سماها “الأسباب العميقة للهجرة غير الشرعية، عبر بلورة آفاق لتشغيل الشباب الموريتاني، خاصة من خلال التعليم والتدريب المهني والاستثمار، وتحسين المهارات والكفاءات الملائمة لسوق العمل، للشباب الموريتانيين”.
كما نص الإعلان على “تعزيز الجهود للوقاية من الهجرة غير الشرعية، من خلال حملات التوعية والتحسيس وإجراءات تسيير الحدود بوصفها عنصرا رئيسيا في مكافحة تهريب المهاجرين، والعمل على مكافحة ومتابعة شبكات تهريب المهاجرين وشبكات الاتجار بالبشر من خلال تحقيقات منسقة، وتعزيز قدرات الأجهزة الأمنية والسلطات القضائية، فضلاً عن تعاونهما العملي، وتعزيز وسائل وقدرات السلطات المسؤولة عن تسيير ومراقبة وضبط الحدود، بالتعاون الوثيق بين موريتانيا وفرونتكس، طبقا لحاجيات موريتانيا التي تم تحديدها في هذا المجال، خاصة فيما يتعلق بالتجهيز والتدريب، مع احترام سيادة موريتانيا”.
أما استضافة المهاجرين غير الشرعيين أو توطينهم مؤقتا أو بشكل دائم، فهي مزاعم وتلفيقات، تماما كالحديث عن الانتقائية الأثنية أو اللونية في ملاحقة المهاجرين غير الشرعيين وتسفيرهن.

ثلاثية الأجانب
مع العلم أن موريتانيا تتعامل مع ثلاثة أصناف من المهاجرين أو المقيمين الأجانب على أراضيها، في مقدمتهم اللاجئون وهؤلاء يتمتعون بوضعية خاصة بموجب القانون الدولي، وتنظم الأمم المتحدة إجراءات إقامتهم وفقا للمنظومة القانونية الموريتانية، وأغلبهم من جمهورية مالي المجاورة، وينحدرون من أقاليمها الشمالية والوسطى، وهم في الغالب الأعم من الطوارق والعرب والفلان، الذين تشهد مناطقهم حروبا ومواجهات عنيفة بين الحكومة المالية وحلفائها الروس من جهة، وبين الجماعات المتمردة مثل تنسيقية الحركات الأزوادية التي تضم عدة حركات تقاتل من أجل استقلال اقليم أزواد عن مالي، والجماعات المتطرفة التي تنخرط في تنظيمي القاعدة وجماعة “الدولة الإسلامية” من جهة أخرى.
اما الصنف الثاني فهم المقيمون الأجانب بصورة شرعية وهؤلاء يمتلكون وثائق إقامة، ولا يواجهون أي مشكلة أو مضايقة، ويبقى الصنف الثالث وهم المهاجرون غير الشرعيين، والذين تسللت أعداد كبيرة منهم إلى البلاد تلمسا للطريق نحو أوربا، أو سعيا للإقامة هنا بطرق غير قانونية، وهؤلاء هم الخطر الأمني والاجتماعي والاقتصادي المحدق.

الإرهاب والديموغرافيا
بيد أن السؤال المطروح الآن هو، لماذا هذا التدفق الكبير والإقبال الغزير من مهاجري إفريقيا الغربية وجنوب الصحراء على بلدنا، وهل من مميزات يسعى وراءها هؤلاء في موريتانيا لا يحظون بها في بلدانهم الأصلية، وهنا لا محيد عن عرض عدة عوامل متشابكة ومتراكمة، داخليا وخارجيا، وبسط بعضها لنفهم أسباب هذه الموجة من الأجانب الذين وصلت أعداد منهم إلى بلادنا، ومازال الآلاف يغالبون الإجراءات الأمنية ويصارعون أسباب المنع للوصول.
فموريتانيا تعتبر من أكثر بلدان الساحل استقرار سياسيا وأمنيا، في حين تعاني أغلب دول الجوار وما قاربها، من ويلات الحروب الأهلية، وأنشطة الجماعات المتطرفة المسلحة، والاضطراب السياسي، لذلك يفر الكثيرون من جحيم تلك المآسي والحروب الأهلية، متلمسين أسباب الأمان في بلدنا، وربما تربصا للعبور نحو الضفة الأخرى، كما أن معظم بلدان الساحل وغرب إفريقيا تواجه شحا في الموارد الاقتصادية وانتشارا للفقر والبطالة، مع انفجار ديمغرافي مرهق للتنمية ومعيق للتقدم والازدهار، قياسا لبلدنا الذي يعتبر أقل بلدان الساحل سكانا، حيث لم يكمل حتى الآن تعداد سكانه المليون الخامس، بينما يزيد عدد السكان في مالي المجاورة على 23 مليونا حسب إحصائيات 2022، من بينهم 67% لم يتجاوزا الخامسة والعشرين من العمر، مع تزايد مضطرد في تعداد السكان بمعدل خصوبة وصل إلى 5,87 طفل لكل امرأة، تتقاذفهم مشاكل الاضطرابات السياسية والحروب الأهلية والنشاطات المتصاعدة للجماعات المتطرفة في شمال ووسط البلاد.
وفي السنغال بلغ عدد السكان حسب إحصائيات 2023 أكثر من 18 مليون نسمة، أكثر من 60% منهم لم تتجاوز أعمارهم 25 عاما، مع معدل للأمية بين السكان يبلغ أكثر من 40%، فضلا عن ارتفاع معدلات البطالة والفقر.
وفي كوت ديفوار، تجاوز عدد السكان 31 مليون نسمة، حسب إحصائيات عام 2023، تقل أعمار أكثر من 60% منهم عن 25 عاما، كما تعاني البلاد من اضطرابات سياسية مزمنة، وصراعات بين المجموعات العرقية، فضلا أنشطة الجماعات المتطرفة التي بدأت تضرب في كوت ديفوار منذ عام 2016.
أما في النيجر التي تعتبر من أكثر بلدان المنطقة فقرا، فيبلغ عدد السكان أكثر من 26 مليون نسمة، لا تتجاوز أعمار 70% منهم 25 عاما، مع معدل خصوبة هو الأعلى عالميا برقم يزيد على 7 أطفال لكل امرأة، وهو ما يعني تزايدا في عدد السكان بشكل سريع، مع تفاقم أزمة الاستقرار السياسي، وانتشار الفقر والأمية والحرب المستعرة مع الجماعات المتطرفة التي تحتل أجزاء من البلاد.
ونفس الشي بالنسبة لبوركينافاسو، التي يناهز عدد سكانها 24 مليون نسمة، تقل أعمار 65% منهم عن 25 عاما، ويزيد عددهم كل سنة بنسبة 2.5% حسب احصائيات 2024،  وتخوض حكومتهم حروبا ضروسا مع الجماعات المتطرفة التي تسيطر على قرابة نصف أراضي البلاد، فضلا عن انتشار الفقر والبطالة والأمية.
وانطلاقا من هذه الوضعية وتلك الأرقام في دول الجوار وما حولها، ونظرا للموقع الجغرافي لبلادنا على شواطئ المحيط الأطلسي، قبالة ضفاف أوربا، كان من الطبيعي أن نكون قبلة لعشرات الآلاف من مواطني هذه البلدان، بحثا عن فرص أفضل للحياة ، وانتظارا لفرجة نحو أوربا، وهو ما يعني حاجتنا لأخذ الاحتياطات اللازمة لمواجهة هذا التحدي المريع، والذي لا قبل لنا به إلا بالتعاون مع جهات أخرى تمتلك مقومات أفضل وقدرات أكثر وأجدى، في التصدي لتلك الظاهر المخيفة، وفي مقدمتها الاتحاد الأوربي الذي يشاطرنا ذات المخاوف والهواجسهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى