
لا تزال السنّة التاريخية للأمة الإسلامية تؤكد أنها لا تنهض من سباتها إلا بعد صدمات عنيفة تُزعزع غفلتها، وتُعيد تشكيل وعيها بمكانتها ومصيرها. فمنذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم حتى يومنا هذا، مرت الأمة بسلسلة من المحن التي تحولت – بقدرة الله – إلى منعطفات حاسمة، مهّدت لانطلاقات جديدة. واليوم، وفي خضم الضربات المتتالية التي تتلقاها الأمة، بدءًا من احتلال العراق، مرورًا بمجازر غزة، ووصولًا إلى الاستهداف المباشر لإيران، يبرز سؤالٌ ملحّ: هل نحن أمام دورة تاريخية جديدة تدفع الأمة للصحوة؟
لكن كيف يمكن أن نقرأ هذه الأحداث في ضوء السنن التاريخية؟ أليس التاريخ يعلمنا أن أعظم الانتصارات تأتي بعد أقسى المحن؟ فلننظر إلى لحظات الانهيار التي سبقت كل نهضة إسلامية كبرى. فبعد ارتقاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى ، كاد الإسلام أن يختفي بانتكاسة الردة، لكن هذه المحنة بالذات هي التي مهّدت لأعظم فتوحات عرفها التاريخ. ثم جاءت الفتنة الكبرى بين الصحابة لتُنتج دولة بني أمية التي حملت الإسلام إلى أقصى المعمورة.
وإذا كان التتار قد دمروا بغداد وأسقطوا الخلافة العباسية، فلماذا لم تكن هذه النهاية؟ بل على العكس، لقد أيقظت الكارثةُ الأمةَ فأنتجت أبطالاً مثل قطز وبيبرس، الذين لم يهزموا التتار فقط، بل أسسوا لعصر جديد. أليس هذا بالضبط ما حدث بعد الحروب الصليبية؟ فمن رحم الهزائم خرج صلاح الدين، ثم قامت الدولة العثمانية التي حمت ديار المسلمين قروناً.
فماذا عن ضربات عصرنا هذه؟ ألا تحمل نفس البصمة التاريخية؟ فمن احتلال العراق إلى مجازر غزة، وصولاً إلى استهداف إيران، أليست هذه الضربات المتلاحقة تُشبه تلك المحطات التاريخية الفاصلة؟ إنها تذكرنا بأن الأمة لا تنتفض إلا حين تصل إلى الحافة، حين يسقط كل وهم، وتتكشف كل الأقنعة. فصمت الأنظمة على إبادة غزة، وموقفها من استهداف إيران، أليس هذا كافياً ليدفع الجماهير إلى رفض هذه الأنظمة جملةً وتفصيلاً؟
ولكن هل يمكن أن نرى في هذه الأحداث بداية لوعي جديد؟ إن تراكم الهزائم يفرض أسئلة مصيرية: لماذا نبقى تابعين للغرب؟ أين مفهوم الأمة الواحدة؟ متى نتحرر من انتظار المنقذ الخارجي؟ هذه الأسئلة نفسها هي التي أفرزتها المحن التاريخية الكبرى، وهي التي أدت إلى النهضات الكبرى.
فهل نستطيع أن نرى في ضربات العراق وغزة وإيران آلام المخاض قبل الولادة الجديدة؟ الأمة كالجسد الواحد، إذا اشتكى عضو تداعى له سائر الجسد. وإن كانت الصدمات موجعة، فهي دليل على أن الأمة لم تمت، بل هي في طريقها إلى صحوة جديدة. فكما خرجت أمة المماليك من تحت أنقاض بغداد، وكما نهض العثمانيون بعد سقوط الأندلس، فإن هذه المحن قد تكون البداية الحقيقية لعصر إسلامي جديد.
فاللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، وارزقنا اليقين بأن بعد العسر يُسراً، وأن مع الكرب فرجاً. فالتاريخ يعلمنا أن أعظم الانتصارات تأتي بعد أقسى المحن، وهذه سنة الله التي لا تتغير… سنة الله فالذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا .. ولن تجد لسنة تحويلا..