
مسعود ولد بلخير.. بين رمزية التاريخ ومتغيرات الواقع
ما جرى مؤخراً من حديث عن تواصل الزعيم الوطني مسعود ولد بلخير مع مؤسسة المعارضة الديمقراطية، أثار ردود فعل متباينة، بعضها عاطفي وبعضها الآخر غاضب، لكنّ الوقوف عند هذه الخطوة بعين التوازن والإنصاف يستوجب قدراً من التأمل الهادئ، والانعتاق من الأحكام المسبقة، بعيداً عن منطق التخوين أو الاصطفاف التلقائي.
قد نختلف اليوم مع الأب و الزعيم مسعود ولد بلخير في بعض خياراته السياسية، وقد نرى في بعض تحركاته الأخيرة ما لا ينسجم مع تطلعات قطاعات من الشباب والنخب الجديدة، لكن ذلك لا يُعفينا من الاعتراف بأن هذا الرجل، بما يحمله من رصيد نضالي وتاريخي، كان ــ ولا يزال ــ أحد الأعمدة الكبرى التي أسهمت في رفع سقف الوعي الوطني، وفتحت الباب أمام أجيال بكاملها لتتحدث عن العدالة والكرامة والمساواة كمطالب مشروعة، بعدما كانت تُعامل كأوهام محظورة.
مسعود ليس طارئاً على المشهد، ولا هو موظف سياسي في ماكينة ظرفية، بل هو رجل قدّم حياته دفاعاً عن قضية عادلة، وأسال حبره ودموعه في ميادين لم يكن الاقتراب منها آمناً، ولا الخوض فيها مكسباً، بل كان نضالاً محفوفاً بالإقصاء والتهميش وحتى السجن… فهل يليق بعد كل ذلك أن يُختزل الرجل في اتصال هاتفي أو قرار سياسي جزئي؟ وهل يجوز أن ننزع عنه ثوب النضال لأنه اختار اليوم موقعًا يخالف تصورات بعضنا؟
إن الانتقال من موقع إلى آخر، أو من دعم سلطة إلى الاصطفاف ضدها، ليس خيانة وطنية، بل هو تعبير طبيعي عن ديناميكية الموقف السياسي، وتفاعل الفاعل السياسي مع المتغيرات. فالديمقراطية الحقيقية لا تُقاس بثبات المواقع، بل بصدق المبادئ، وقدرة أصحابها على المراجعة حين تقتضي الضرورة.
ثم إن ترشح الزعيم مسعود ولد بلخير لمنصب رئيس الجمهورية، ودعمه لاحقاً لخيارات النظام، لا ينبغي أن يكون وصمة عار تلاحقه إلى الأبد. فكم من قادة عظام دعّموا أنظمة ثم خالفوها لاحقاً، وكم من رموز وازنة خاضت تجارب في الحكم ثم عادت إلى صفوف المعارضة. السياسة ليست سجنًا، بل مساحة للمراجعة والنقد وإعادة التموضع.
إن الخطاب الذي يسعى إلى نزع المشروعية عن هذا الرمز الوطني، لمجرد موقف ظرفي، هو خطاب قاصر، لا ينظر إلى عمق التجربة ولا إلى حجم التضحيات التي بذلها الرجل لأجل من هم اليوم يكتبون بأمان، ويتظاهرون بحرية، وينتقدون منابر السلطة من دون خوف أو وجل.
نعم، نختلف مع الزعيم مسعود في التوقيت، وربما في السياق، لكن لا نختلف على تاريخه، ولا نتجاهل نُبل نضاله. وإن كان بعض الجيل الجديد لا يدرك حجم الكلفة التي دفعها هؤلاء الآباء، فليعلم أن مكاسبه الراهنة ما كانت لتكون ممكنة لولا دموع وعرق من سبقوه في دروب الكفاح.
ثم إن أي تمثيل لقضية الحراطين، أو لقضية العدالة الاجتماعية في موريتانيا، لا يمكن أن يكون كاملًا من دون الأخذ برمزية من شكّلوا وعيها الأول، وحملوا أعباءها قبل أن تتحول إلى ملف سياسي مشترك.
إننا نحتاج إلى خطاب سياسي يُنصف الرموز دون أن يُقدّسها، وينتقد المواقف دون أن يُهين أصحابها، ويخوض المعركة السياسية بأدوات نزيهة تُفرّق بين الشخص والمبدأ، وبين الموقف والتاريخ.
وفي النهاية، تبقى الشعوب قادرة على التمييز. فالمجتمع يدرك من يُناضل من أجله، ومن يُساوم باسمه، لكنه أيضًا لا يقبل أن يُزوَّر تاريخه النضالي، أو تُختصر رموزه في لحظة اختلاف عابرة.
فيا أبناء الجيل الجديد: راجعوا دفاتر التاريخ، واعرفوا من جاءكم بالضوء من قلب الظلمة، حتى وإن اختلفت عليه الأمكنة والمواضع… فالبوصلة الأخلاقية هي وحدها ما يوجّه المواقف، لا هوى اللحظة ولا مزاج الخطاب.