بدءا لابد من التنبيه على أن هذه المقترحات التي أقدمها من خلال هذه السلسلة من المقالات ليست مقترحات شاملة للملفات التي يُعنى بها كل قطاع، وإنما هي مقترحات خاصة ببعض الملفات والقضايا الجزئية، التي شكلت في فترة من الفترات مجالا من مجالات اهتماماتي الشخصية، على المستوى النظري أو العملي أو على كليهما معاً.
في العام 2007 تقدمتُ إلى الجهات المعنية بمقترحين للحد من البطالة في الأوساط الأكثر فقرا، أحدهما اكتفيت بتقديمه بشكل نظري وكان يهدف إلى تحويل القمامة إلى مورد للدخل، والثاني جسدته ميدانيا من خلال مركز “الخطوة الأولى” للتنمية الذاتية الذي أسسته في تلك الفترة، وفي اعتقادي أن فترة صلاحية المقترحين ما تزال قائمة، حتى وإن كانت هناك أمور كثيرة قد تغيرت خلال السبع عشرة سنة الأخيرة.
المقترح الأول: لماذا لا نحارب البطالة من خلال برامج واسعة في التثقيف الحرفي؟
لا خلاف على أن نسبة كبيرة من ثرواتنا في هذه البلاد تستنزف من طرف عمال أجانب لهم حظ لا بأس به من التكوين والتخصص في مجالات معينة، ومواجهة هذا النوع من منافسة اليد العاملة الأجنبية يحتاج بالفعل إلى الاهتمام بالتكوين المهني، ولكن وفي المقابل، فإن هناك نسبة كبيرة من ثرواتنا ما تزال تستنزف من طرف يد عاملة أجنبية غير متخصصة، من خلال ممارستها لحرف ومهن بسيطة جدا، لا تحتاج لتكوين مهني بالمفهوم المتعارف عليه، ومواجهة هذا النوع من منافسة اليد العاملة لا يحتاج لتكوين مهني لمدة سنة أو سنتين، وإنما يحتاج ـ في الأساس ـ إلى تغيير عقليات وإلى التوعية بأهمية العمل، مع تكوين أو تدريب مبسط وقصير المدة على حرفة ما أو مهنة ما، وهذا هو ما أطلقنا عليه في مركز الخطوة الأولى “التثقيف الحرفي”، تمييزا له عن التكوين المهني. ولتجسيد هذا المقترح ميدانيا قمنا في العام 2007 بفتح مركز للتثقيف الحرفي في مقاطعة عرفات، وبدأنا دورات في صناعة الحلويات، وكنا نأمل حينها أن يعمم هذا النوع من المراكز المتخصصة في التثقيف الحرفي في مختلف ولايات الوطن.
كنتُ في تلك الفترة أقرأ كثيرا عن تجربة محمد يونس الرئيس الحالي للحكومة المؤقتة في بنغلاديش، وقد استلهمت ـ بشكل أو بآخر ـ فكرة مراكز التثقيف الحرفي من فكرته التي ابتدعها في نهاية السبعينات من القرن الماضي، والتي أحدثت ثورة في مجال مكافحة الفقر من خلال القروض الصغيرة (بنك غرامين أو بنك القرية).
جاءت فكرة بنك غرامين أو بنوك الفقراء كما يسميها البعض، لتحل مشكلة تمويل مشاريع صغيرة للفقراء الذين لا يملكون ضمانا يأخذوا مقابله قروضا من البنوك، وجاءت فكرة مراكز التثقيف الحرفي من أجل أن تقدم فرصة لتكوين وتأهيل فقراء لم يتعلموا أو تركوا المدرسة في وقت مبكر، أو تجاوزوا عمريا مرحلة التكوين، وحرموا بالتالي من التكوين أو التدريب على حرفة أو مهنة بسيطة تمكنهم من العيش الكريم.
كان الفقراء في بنغلاديش يموتون بسبب الجوع في السبعينيات من القرن الماضي، وكان لابد من التفكير خارج الصندوق للبحث عن حلول لمحاربة الفقر، فكر محمد يونس خارج الصندوق وأوصلته أفكاره إلى ضرورة تأسيس بنوك توفر التمويل للفقراء، يكون بإمكانها أن تقدم لهم قروضا بلا ضمان، ومن المعروف أن القروض البنكية قائمة بالأساس على الضمان، مما حرم الفقراء الذين هم في أمس الحاجة إلى القروض من الحصول على قروض.
كانت الفكرة غريبة ومجنونة في ذلك الوقت، وقوبلت بالكثير من السخرية والاستهزاء من طرف البنك المركزي وكبار الاقتصاديين في بنغلاديش، لأنه لم يكن حينها هناك من يستطيع أن يتخيل أنه يمكن لأي بنك في العالم أن يقدم قروضا لفقراء لا يملكون أي ضمان.
ولقد تبين فيما بعد بأن الفكرة لم تكن مجنونة، بل كانت فكرة رائدة، أحدثت ثورة حقيقية في مجال التمويلات الصغيرة ومحاربة الفقر، فحجم قروض بنك غرامين منذ تأسيسه وحتى اليوم وصل إلى 38 مليار دولار، واستفاد من تلك القروض 10 ملايين فقير، من بينهم 21 ألف متسول انتقلوا بفضل هذه التمويلات من التسول إلى الحياة النشطة، والبنك ينشط في 94% من قرى بنغلاديش، وكانت معدلات استرداد ديونه مرتفعة جدا، رغم أنه لا يشترط أي ضمان، فتراوحت ما بين 97% إلى 99.6 %، وفتح البنك فروعا كثيرة في العديد من الدول، وله 19 فرعا في 11 ولاية أمريكية، واستفاد من خدماته هناك أكثر من 100 ألف فقير أمريكي.
لم يكن منطقيا بالنسبة لمحمد يونس أن يتواصل حرمان الفقراء في بنغلاديش من الحصول على تمويلات هم في أمس الحاجة إليها بحجة أنهم لا يملكون ضمانات للحصول على قروض، وبنفس المنطق يمكننا القول بأنه ليس من المقبول حرمان فقراء في موريتانيا من تعلم مهنة أو حرفة بحجة أنهم لم يتعلموا أصلا، أو أنهم تجاوزا السن التي يسمح لأصحابها بالتكوين في معاهد ومراكز التكوين المهني.
إن مراكز ومعاهد التكوين المهني الموجودة في بلادنا لا يمكن أن يستفيد منها الموريتانيون الأقل تعليما والأكبر سنا، ولا تحل مشاكل الكثير من المستهدفين، وذلك لأنها:
1 ـ تشترط لدخولها مستويات دراسية معينة، وكذلك سنا عمرية محددة. أما الشريحة التي تستهدفها فكرة مراكز التثقيف الحرفي فهي أقل تعليما، وليست بالضرورة في مرحلة عمرية محددة.
2 ـ مراكز التكوين المهني تدرب على آلات باهظة الثمن لذلك فالمتدرب لا يستطيع بعد التخرج أن يفتتح ورشة تعتمد على الآلات التي تدرب عليها لارتفاع أسعار تلك الآلات. أما فكرة مراكز التثقيف الحرفي فهي قائمة على أساس أن المتدرب هو شخص فقير جدا ولا يستطيع أن يفتتح ورشة إلا إذا كان رأسمالها قليل جدا.
3 ـ طول فترة التكوين في مراكز ومعاهد التكوين، قد تكون مقبولة بالنسبة لبعض المستفيدين ولبعض المهن، ولكنها ليست مناسبة لبعض المهن ولبعض المستفيدين، ولذا فدورات مراكز التثقيف الحرفي دورات قصيرة المدة ويمكن أن يشارك فيها عدد كبير جدا من المستهدفين.
لقد أحصينا في مركز الخطوة الأولى للتنمية الذاتية عشرات الحرف والمهن الصغيرة التي يمكن أن توضع لها برامج تدريبية متكاملة في التثقيف الحرفي. وعمليا فقد نظمنا في العام 2007 ـ وبإمكانيات متواضعة جدا ـ برنامجا تدريبيا متكاملا في التثقيف الحرفي، في مجال “صناعة الحلويات”، استفاد منه العشرات من أرباب وربات الأسر في مقاطعة عرفات.
تم التدريب على صناعة الحلويات على فرن مصنع محليا ويشتغل بالغاز، ويتميز هذا الفرن بالمواصفات التالية:
ـ متوفر محليا وبسعر في متناول الفقراء.
ـ هذه الأفران قادرة على إنتاج كميات كبيرة نسبيا من الحلويات تكفي لتوفير ما يحتاجه محل حلويات صغير.
ـ هذه الأفران تنتج حلويات بجودة عالية، ولا يمكن التفريق بينها وبين منتجات محلات الحلويات الكبرى في العاصمة، والتي استثمرت فيها عشرات الملايين من الأوقية.
خلاصة هذا المقترح : إننا في هذه البلاد بحاجة في مجال محاربة الفقر إلى مراكز للتثقيف الحرفي ولتغيير العقليات وللتوعية بأهمية العمل، فهذه المراكز قد تمكن آلاف الموريتانيين من تعلم حرفة أو مهنة توفر لهم دخلا هم في أمس الحاجة إليه. هذا عن المهارات الصلبة، أما المهارات الناعمة فستكون موضوع مقترح آخر إن شاء الله.
المقترح الثاني : لماذا لا نجعل من القمامة موردا لتوفير الدخل وتشغيل الفقراء؟
من التفكير خارج الصندوق سننتقل إلى التفكير بالمقلوب، وذلك من أجل الإجابة على السؤال : كيف نغير من سلوك المواطن الموريتاني، ونجعله بدلا من أن يذهب إلى الشارع لرمي القمامة يأتي إلى الشارع لجمع القمامة؟
هذا السؤال سيجيب عليه هذا المقترح الذي قُدِّم لأول مرة من خلال رسالة مفتوحة موجهة إلى الرئيس السابق سيدي ولد الشيخ عبد الله رحمه الله.
يهدف هذا المقترح إلى تحقيق هدفين كبيرين : أولهما تنظيف العاصمة نواكشوط، وتحويلها إلى مدينة نظيفة، وثانيهما تحويل القمامة إلى مورد اقتصادي لتوفير دخل منتظم لآلاف الفقراء.
هذا المقترح ـ إن تم الأخذ به ـ سيجعل من القمامة “ثروة وطنية” لتشغيل الآلاف من الموريتانيين الأكثر فقرا، ويصعب أن تتم منافستهم من طرف من هم أحسن حالا، وهذه مسألة في غاية الأهمية، فمن المعروف بأن الميسورين في هذه البلاد قد تعودوا دائما على أن ينافسوا الفقراء في كل الفرص التي كان يجب أن تبقى خاصة بالفقراء.
إن القمامة يمكن أن يتم تحويلها إلى سلعة تباع و تشترى، وعندها ستختفي كما اختفت من شوارع العاصمة الخردة والمواد البلاستيكية الصلبة.
يتلخص هذا المقترح في مطالبة الحكومة بتأسيس شركة عمومية أو مختلطة لشراء القمامة من عند المواطنين، تخصص لها الأموال التي كانت تقدمها الحكومة لشركة “بيزورنو” الفرنسية في مرحلة سابقة، أو لشركات التنظيف المحلية في مرحلة لاحقة، على أن تحدد هذه الشركة نقاطا خارج العاصمة لشراء القمامة من عند المواطنين، ولو أن الحكومة قامت بتنفيذ هذا المقترح لتنافس أصحاب السيارات ذات العجلات الثلاثة و العربات التي تجرها الحمير في جمع القمامة من شوارع العاصمة نواكشوط، فكل من يملك واحدة من تلك السيارات سيكون بإمكانه أن يشغل عددا من العمال لجمع القمامة ولحملها في سيارته خارج العاصمة لبيع ما جمع من قمامة عند نقاط شراء القمامة الموجودة هناك.
لقد كانت الدولة تمنح لشركة “بيزورنو” ملياري أوقية سنويا لتنظيف العاصمة، ولقد نقل عن مدير هذه الشركة في إحدى المقابلات بأن شركته كانت تعالج يوميا 600 طن من القمامة، وهذا يعني بأن الكيلوغرام من القمامة كان يكلف الدولة الموريتانية 10 أواق قديمة، وقد كلفها أكثر من ذلك في ظل التعاقد مع شركات خاصة لتنظيف العاصمة، وربما تصل كلفة الكيلوغرام الواحد من القمامة إلى أكثر من 20 أوقية قديمة. ولو أن السلطة منحت 20 أوقية قديمة لكل مواطن يأتيها بكيلوغرام من القمامة، لتنافس المواطنون في جمع القمامة، ومن يدري فربما تحدث نزاعات على ملكية القمامة، وربما تقع خصومات عند جمعها من الشوارع إذا ما تحولت هذه القمامة إلى سلعة تباع وتشترى.
إن جمع ونقل 200 كلغ من القمامة يوميا، وهذه كمية قليلة لا تحتاج لجهد ولا وقت كبير، ستوفر لصاحبها 4000 أوقية قديمة يوميا، وهو ما يعني أن دخله الشهري سيصل إلى 120 ألف أوقية قديمة.
يمكن التفكير في مرحلة لاحقة في تدوير القمامة، وذلك من خلال منح أسعار تشجيعية لمن يجمع قمامة متجانسة، فمن المعروف أن أصعب ما في عملية تدوير القمامة هو فصل المواد القابلة للتدوير عن بقية القمامة، كالبلاستيك والزجاج والعلب المعدنية والورق …إلخ
سيتواصل إن شاء الله تقديم مقترحات أخرى لوزراء آخرين..
حفظ الله موريتانيا..
محمد الأمين الفاضل