مقالات

مهددات كيان الأسرة .. سير عكس منهج الفطرة ../ رقية أحمد منيه

الحمد لله الذي خلق فأحسن كل شيء خلقه وجعل خلق الإنسان من طين لازب ، حيث اجتماع ألوان التراب ومكمن الضعف الجبلي ، وجعل فيه من خصائص الخلقة للأبوين ما يحفظ استمرار نسل بني آدم ، واقتضت حكمة فطر الكون أن يكون البشر هم حملة أمانة الاستخلاف ، لما أودع فيهم من حب الفطرة ، قال في محكم التنزيل: ﴿فَأقِمْ وجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ الله الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على المبعوث رحمة للعالمين الهادي إلى صراط الله المستقيم سيد ولد آدم محمد النبي الأمين القائل:
{ كلُّ مولودٍ يُولَدُ على الفِطرةِ..} . (أخرجه مطولًا البخاري واللفظ له، ومسلم) ، وعلى آله أولي الخلق والنقاء وصحبه أهل الصدق والوفاء، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وللأثر اقتفى.
وبعد؛ فقد اكتسح عالمنا تيار جارف من تمييع القيم وضرب الأخلاق في الصميم ، يريد للجميع أن لا يرى إلا ما يرى ، يحتكر قيادة النموذج ويقدم رؤيته المنافية لكل خير ، في قوالب الترفيه والامتاع تارة ، وفي أحايين كثيرة يخترق المجتمعات بقوة وسائل التواصل الاجتماعي ، فيحدث تأثيرا محدود القيمة كثير الخطل ، لا يؤسس لفضيلة ولا يحقق هدفا ناصعا ، والذي يحز في النفس أنه من صنع المجتمع ذاته ، فعلى حين غرة منه تسللت ثقافات وآراء وأفكار ، فاخترقت حجب الفضائل ، شجعها تهافت الباحثين عن الفرجة في أوقات تبلد المشاعر ، من يلهث خلف السراب ، يوهم عقله الباطن بسعادة مرجوة تختزلها لحظات البث العابر الذاهب مع خيوط الهواء ، حيث لا رقيب ولا حسيب إلا وازع الفؤاد ، إنه عالم التفلت يفتح الأبواب لمقارعة الفطرة السليمة .
إذ ليست قصة عرض مناف للقيم إلا نقطة في بحر التراجع ، تقهقر عن طريق الطهر الذي يحافظ على كيان الأسرة ، التي هي أساس الاجتماع الإنساني ونواته الأولى ، فكل إتيان لزعزعة المجموع يكون من قبل الأسرة ، وذلك بزرع بذور التشكيك في الوظائف والمسؤوليات ، وإحداث شرخ عميق بين أفرادها ، بتنميط صورة المرأة المثالية .
وإن كان ظاهر الأمر الارتباط بقشور صارفة إلا أن لب المشكل أعمق من ذلك ، إنه لهث وراء الماديات وبحث عن إشباع الرغبات بعيدا عن قانون المنهج ، أحدث زمرة مجتمعية تعيش واقعا مغايرا لأصل ناموس الاجتماع البشري ، إذ لكل أهل ملة قيم ناظمة للعلائق بين الأفراد ، تقدس أسس الاستمداد، وتحفظ الوعاء الجامع الذي يتوج ذروة البناء الاجتماعي الحديث .
ثم إن أهل النظر تحدثوا عن مفهوم الاجتماع الإنساني باعتباره ضرورة لا يحصل العمران إلا بها ، إذ الإنسان بطبعه مدني كما يرى ابن خلدون ، ولكنها مدنية منتظمة ، تضبط سلوك الأفراد ، وتضمن تصريف الشهوات والملذات وفق قواعد الشرع الحنيف .
ثم إن نظام الأسرة في الإسلام، نظام فريد يتحكم في الرغبات الجبلية والعوارض الحياتية والأحوال المكتسبة، وكبح جماح الشهوات والملذات، فلم يمنع الإنسان من الحصول على حاجاته الخلقية، بل جاء بما يقومها ويهذبها ويوجهها نحو بناء مؤسسة مجتمعية فاضلة، وإحداث نسق مشروع يسمى عقد الزواج وسماه ميثاقا غليظا؛ تترتب عليه آثار تنظيمية متوافقة مع قواعد ومقاصد الشرع الحنيف، أولها إقامة مؤسسة الأسرة، وجعلها النواة الأولية للمجتمع الصالح، ولهذا أحاطها الإسلام بسور عظيم من الأحكام الشرعية، وأولى عناية فائقة بعقود الزواج ، وجعلها الصيغة الوحيدة المقبولة لاجتماع الرجل والمرأة على سبيل “الملابسة”، وهدم أنكحة الجاهلية القائمة على السفاح واستباحة المحرمات واختلاط الأنساب، ثم إن الله تعالى امتن على عباده المؤمنين بنعمة خلق الزوج لمؤانسة النفس وأمر بتقواه وصلة الأرحام، يقول الله سبحانه وتعالى:
﴿يا أيُّها النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكم مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ وخَلَقَ مِنها زَوْجَها وبَثَّ مِنهُما رِجالًا كَثِيرًا ونِساءً واتَّقُوا الله الَّذِي تَسّاءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ الله كانَ عَلَيْكم رَقِيبًا﴾.
يقول صاحب التحرير والتنوير في تفسير الآية:
《 وقَدْ شَمِلَ قَوْلُهُ ﴿وخَلَقَ مِنها زَوْجَها﴾ العِبْرَةَ بِهَذا الخَلْقِ العَجِيبِ الَّذِي أصْلُهُ واحِدٌ، ويَخْرُجُ هو مُخْتَلِفَ الشَّكْلِ والخَصائِصِ، والمِنَّةُ عَلى الذُّكْرانِ بِخَلْقِ النِّساءِ لَهم، والمِنَّةُ عَلى النِّساءِ بِخَلْقِ الرِّجالِ لَهُنَّ، ثُمَّ مَنَّ عَلى النَّوْعِ بِنِعْمَةِ النَّسْلِ في قَوْلِهِ ﴿وبَثَّ مِنهُما رِجالًا كَثِيرًا ونِساءً﴾ مَعَ ما في ذَلِكَ مِنَ الِاعْتِبارِ بِهَذا التَّكْوِينِ العَجِيبِ》.
وهذا كله ينطلق من أصل الخلقة، وحقيقة الفطرة التي فطر الله الخلق عليها، قال جل شأنه: ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾، ولما كان الإنسان مميزا بالعقل عن بقية المخلوقات، خصه الله بأوامر تضبط علاقاته مع بني جلدته، وجعل تكوين الأسرة الصغيرة سببا في إنشاء علاقات ممتدة تمثل الأسرة الكبيرة، حيث أواصر الرحم والقربى وشائج يجب وصلها بما أمر الله، وتوعد تقطيع الأرحام وجعله صنو الإفساد في الأرض، وأودع في نظام الأسرة من الحكم ما يصعب حصرها، ولعل أولها وحدة الأصل واختلاف الفرع اختلاف تنوع مفيد، تتفرق فيه الطباع والمشارب والاهتمامات، وتتوحد الأطر والأهداف والغايات، فكل الأبناء يحمل نفس خصائص الخلقة للأبوين، ولكن الأفهام والأنساق والقدرات تتفاوت، ما يؤدي إلى عظم مسؤولية التربية والتعليم والحضانة وغيرها من عوامل صناعة الفكر الحضاري للمجتمع، وتعاظم المهام والوظائف والمسؤوليات ونطاق التأثير حماية للأسرة من معاول هدم أصحاب الأهواء ودعاة الانحلال .
ولا يكون شيء من ذلك إلا بتمثل التقوى واقعا حقيقيا خاليا من غوائل النفاق المجتمعي ، يطبق قيم الصدق والأمانة ، ويقدم بدائل متوافقة مع مقتضيات الشريعة الإسلامية ، تنقذ البشرية من التردي نحو منزلق لا عاصم منه ، إلا العض بالنواجذ على سنة المعصوم صلوات ربي وسلامه عليه .
ولله الأمر من قبل ومن بعد.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى