تتجه الأنظار حاليا إلى موقف حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية “تواصل” من الانتخابات القادمة، بوصفه حزب المعارض الأبرز والذي يتزعم مؤسسة المعارضة ولما يتمتع به الحزب من حيوية وفعالية وحضور جماهيري كبير ومتنوع.
وفي حين تترقب الساحة الوطنية بتلهف موقف الإسلاميين يدخل قادة الحزب حاليا وفي مختلف مؤسساته في دورة مشاورات موسعة هي ما سيفضي في النهاية إلى القرار المهم المنتظر من طرف الجميع.
وقد عرف عن “تواصل” جنوحه نحو التشاور الموسع الذي دائما ما يسبق قراراته خاصة النوعية، كما عرف بمخاض مؤسساته الصعب ومداولاتها الجادة التي قد لا تحسم إلا بفارق أصوات قليلة، فليس “تواصل” بالحزب الذي يسيطر عليه فرد، بل هو بلا منازع أفضل وأرقى التشكيلات المؤسسية الشورية في البلد.
وعادة ما تمر قرارات الحزب خاصة المؤثرة منها بمسار مشاورات موسع قد يشمل حتى هيئات الحزب القاعدية وبعض الشخصيات المناصرة والمقربة من الحزب.
كما يسبق أي قرار حزبي دراسة متأنية لميزان القوة داخل الساحة السياسية ولقاءات واتصالات بمختلف الفاعلين في المشهد السياسي مع أوراق وتصورات ودراسات وجمع ضاف لما تيسر من معلومات ومعطيات، وهو ما حصل بالفعل ويوشك أن يكتمل..
والآن وقد قربت ساعة الحسم فلا بأس بشيء من القراءة والتحليل للأرضية التي ينطلق منها حزب “تواصل” وما يستشرف من فرص وتحديات وسيناريوهات، وهي قراءة مهمة في رأيي لقيادة الحزب وقاعدته أولا، ومهمة كذلك لمختلف الدوائر الوطنية المترقبة لقرار الحزب والتي قد تفاجأ بهذا القرار أو ذاك.
فحزب “تواصل” الذي اختار كثيرا أن يغلب كفة الإجماع الوطني والاتفاق داخل المعارضة خاصة في الانتخابات الرئاسية التي يتنافس فيها الجميع على مقعد واحد لا يتجزأ والتي يفترض أن يكون الصراع فيها بين السلطة والمعارضة مجتمعة أو بين السلطة وأكبر تجمع للمعارضة؛ تحقيقا للزخم المطوب والديناميكية المؤثرة.. يوشك أن يقف حاليا على أرضية مفتوحة على عدد من الاحتمالات التي أصبحت متقاربة في تأثيرها وكلفتها وحجم التحدي فيها ومستوى التبني لها داخل قيادة الحزب ومناصريه (الترشح الذاتي، الدعم، المقاطعة)
وهو ما يجعلني أتوقع جلسة ساخنة لاجتماع المكاتب السياسي القادم، ويدعوني ذلك لأهمس في أذن إخواني في قيادة “تواصل” أن انتبهوا! فالاجتماعات وإن كانت في المنزلة القانونية سواء؛ فإن منها العادي الذي هو إقرار لواضح محسوم، ومنها العادي الذي هو تأكيد لمسار، ومنها الخطير ومنها الخطير جدا في آثاره وارتداداته داخل الحزب وخارجه؛ فأخلصوا النية وتجردوا واستعينوا بالله وادرسوا وتبينوا ثم توكلوا.
منطلقات وتحديات:
وقبل الخوض في تفاصيل الخيارات والسيناريوهات لا بأس بالتذكير بجملة منطلقات منهجية تعتبر ضرورية لفهم سياق حديثنا:
– من الصعب القطع الجازم بموقف لا يزال يتطلب العرض على مؤسسات “تواصل” وهيئاته ونماذج خيبات أصحاب “المصادر المطلعة” و”الموثوقة” و”القيادية” كثيرة مشهودة! وهذا مرده بسيط؛ فحتى لو ظهر توجه عام قبْلي عند قيادة الحزب فإن النقاش والحجاج وتبادل المعطيات قد ترجح كفة رأي مرجوح؛ وربما في آخر لحظة، فبحسب المتابع والمحلل إذا أن يعبر عن توجهات أو يستعرض سيناريوهات قد يترجح بعضها وقد لا يترجح.
– أنه كلما أخذت القرارات مداها ووقتها المخصص لنقاشها كانت أقرب للتعبير عن روح المؤسسة، وتوجه مجموع أفرادها، وكانت بإذن الله أقرب للصواب.
– من التحديات في مشهدنا المحلي والتي خلطت الكثير من الأوراق هي أن الرئيس غزواني ليس له أعداء لا في الداخل ولا في الخارج، إذا ما استثنينا ولد عبد العزيز وعداوة أمثاله تزيد الشخص ولا تنقصه..
– وبالتالي يمكننا القول إن ولد الغزواني حول الخلاف بينه وبين معارضيه إلى منافسة طبيعية وليست صراعا عدائيا، ورغم محاولات بعضهم المتكررة لجره إلى ساحة للصراع العنيف إلا أنه كان ينجح في كل مرة في إخماد ذلك.. وهو وضع مربك للشارع الموريتاني عموما وللمعارضة بالخصوص، والتي لم تتعود صراع الحجج والبراهين والإقناع وإنما تعودت الصراع والمواجهة العنيفة لفظا وفعلا.
– كما أن غياب الصراع العدائي مع ولد الغزواني أفقد معارضيه ورقة مهمة وهي ورقة التمويل، فغياب الأعداء والمتضررين خاصة من رجال الأعمال والنافذين لا يجعلهم يستثمرون في المعارضة الاستثمار الجاد الذي يؤثر في موازين القوة.
– من التحديات أيضا ما شهده البلد في السنوات الأخيرة من تحولات عميقة في خارطة المشهد السياسي في السلطة والمعارضة وهو ما لم يأخذ بعد حقه من الدراسة والاعتبار والاستدراك، ولم تتكيف النخبة السياسية مع هذا الوضع الجديد الذي يتطلب وجود رؤى ومواقف وأساليب جديدة.
بعد حديث المنطلقات والتحديات يمكننا أن نناقش الخيارات الانتخابية أمام تواصل والترتيب أدناه ليس بالضرورة ترجيحا ولكنه منطقي بحسب التسلل المتدرج للاختيارات:
الخيار الأول هو الترشح المستقل:
بمعنى أن يدفع الحزب بمرشح من داخله، وهذا الخيار وإن استبعده البعض لما قررنا سابقا وأكدته تجارب الحزب من أنه دائما ما يغلب وحدة المعارضة على مصلحة الحزب؛ إلا أن منطق السياسة يجعل خيار الترشيح المستقل هو الخيار الطبيعي، والاحتمال الأول، خاصة في غياب إجماع أو اتفاق واسع على مرشح قوي للمعارضة.
تبقى الأسماء في حالة توجه الحزب لهذا الخيار كثيرة فالحزب يعتبر –بحمد الله – مشتلا متجددا للقيادات:
– فالمنطق السياسي أيضا يجعل حظوظ وفرص رئيس الحزب وزعيم المعارضة الحالي امادي ولد سيد المختار بوصفه الأحق بها.. فأولى من ينافس رأس السلطة هو زعيم المعارضة ورئيس حزبها الأقوى، ولما يتمتع به امادي من مقبولية مجتمعية وانحداره من ولاية تعتبر خزانا انتخابيا، وقد صوت له ساكنتها في استحقاقين نيابيين وفي مواجهة أشد السلط عداء وتضييقا على الإسلاميين.
– من الخيارات المطروحة أيضا أمام الإسلاميين هي الدفع برئيس مجلس الشورى الحالي المهندس والإطار حمدي ولد إبراهيم، ويحظى الرئيس حمدي بإجماع وقبول كبير داخل مختلف أوساط الحزب لكفاءته وبعده عن الكثير من الخلافات البينية التي عرفها الحزب مؤخرا،
– من الخيارات المطروحة ترشيح زعيم المعارضة الأسبق العمدة المحبوب والسياسي الحصيف الحسن ولد محمد وهو أحد القيادات التاريخية للإسلامين وأحد مؤسسي مبادرة الإصلاحيين الوسطيين.
– ومن الخيارات أيضا أن يدفع الحزب بأحد رموزه الشابة للمنافسة تماشيا مع موجة الترشيحات الداخلية وتناغما مع تيارات التغيير الشبابي القادمة من الجنوب.
ويبرز نائب رئيس البرلمان ونائب رئيس الحزب والوجه السياسي الصاعد المهندس أحمدو ولد امبالة، وكذلك نائب رئيس الحزب النائب المميز محمد ولد محمد امبارك وكذلك القيادي البارز والمناضل الحقوقي الجسور أحمدو الوديعة، ولا شك بأنها أسماء جديدة ستضيف ألقا وحيوية واستقطابا واسعا في شرائح الشباب الطامح للتجديد والتغيير.
الخيار الثاني دعم أحد المرشحين:
ومع أنه لا مستحيل في السياسة، وعلى الرغم من وجود مقربين من غزواني من بين المؤثرين في الحزب، إلا أنه يمكننا القول باستبعاد أن يدعم تواصل الرئيس غزواني في الانتخابات القادمة، بسبب التقويمات السلبية للحزب تجاه 5 سنوات من حكم الرجل، ولغياب أي تطورات جديدة في العلاقة مع الرجل.
كما أن الخلاف الجذري بين طبيعة طرح كل من المرشح بيرام الداه اعبيد والمرشح عن حزب التحالف من أجل العدالة والديمقراطية ajd mr با مامادو بوكار يعتبر عائقا أمام دعم هذين المرشحين.
وفي ظل صعوبة بروز مرشح جديد للانتخابات بسبب ضيق الوقت وما تتطلبه الانتخابات الرئاسية من تحضير وإمكانات تبقى خيارات الدعم محصورة في الأسماء المتبقية وأبرزها في رأيي الرباعي (العيد محمدن، سوماري أوتوما، المرتجي ولد الوافي، نور الدين محمدو)
ويجمع بين الأربعة كونهم مرشحون شباب وبأنهم من خيرة الكفاءات الوطنية فنيا وفي مجالات متعددة (المحاماة، الطب، المحاسبة، الرياضيات) وكذلك توجه معارض مقبول، وعلاقات حسنة في الساحة الوطنية، وكذلك تقارب فكري وسلوكي مع الحزب ذي المرجعية الإسلامية.
مع عدد من الخصوصيات والاختلافات في نقاط الضعف والقوة لصالح هذا المرشح أو ذاك لا يتسع المقام للتوقف عندها.
ولكن تبقى السلبية الأبرز لهم ولغيرهم من المرشحين – الذين لا تسعفني معلومات كثيرة عنهم – هي أن منطق السياسة يقول بأن الاجتماع ينبغي أن يكون حول الأقوى والأوفر حظا وإمكانات.. والأوفر حظا في هذه الحالة هو حزب ” تواصل” والذي يمتلك عشرات إن لم نقل مئات القادة والاطر والشباب بنفس كفاءات ومميزات هذه الأسماء وفيهم من يفوقها بكثير.
الخيار الثالث الحياد أو المقاطعة:
وتبقى من الخيارات الواردة خاصة أن الحزب خرج بخيبة أمل كبيرة من الانتخابات الأخيرة بسبب ضعف أداء واستقلالية اللجنة المستقلة للانتخابات والتدخلات السافرة في الانتخابات من قبل أجهزة الدولة والنافذين، ولم تجر مراجعات جادة لتلك الأخطاء، كما أن الهامش الذي يسببه الارتباك وضعف قبضة وتحكم السلطة التنفيذية في الانتخابات المحلية بسبب سعة الانتشار وتضارب المصالح وصراع اللوبيات قد لا يكون متاحا بدرجة كبيرة في الانتخابات الرئاسية.
ومع ذلك يمكننا أن نقلل من احتمالية موقف الحياد لما فيه من سلبية وخدمة للنظام إلا إذا ألزم الحزب مناضليه بالتصويت لمرشحي المعارضة فهو مقبول على ما فيه من ضعف وسلبية.
أما المقاطعة فخيار وارد رغم عدم اكتمال شروطها وصعوبة تحويلها إلا موقف فاعل مؤثر.. فإذا انشغل الناس كل بمرشحه فلا صوت سيعلو فوق صوت الحملة، وسيبقى المقاطعون على الهامش وهذا لا يناسب من يتزعم المعارضة، والمقاطعة في النهاية من مراحل الدواء بالكي، وكما يقال “آخر الدواء الكي!”.
خلاصة القول بأن “تواصل” هذه المرة أمام خيارات صعبة: التقدم بشكل مستقل لمن لم يتهيأ له واستنزفته المشاورات والاتصالات، أو تقديم من هو أدنى وزنا وتأثيرا وفي ساحة منقسمة، أو المقاطعة والمقاطعة المقاطعة أدهى وأمر.
ولكن ينبغي ألا نفقد الأمل فكما يقال بأن رجل الدولة الحصيف ينبغي ألا يأمن الانتخابات مهما سهلت ولا المظاهرات مهما صغرت؛ فهي بؤر توتر قد تخرج عن السيطرة في أية لحظة.
فكذلك المعارض المؤمن صاحب المبدأ ينبغي ألا ييأس مهما صعبت الظروف وكبرت التحديات، فهناك نسبة معارضة طبيعية للأمر الواقع في كل المجتمعات – قد تناهز النصف أحيانا – مهما أنجزت حكوماتها وأبدعت، فكيف ولا يعرف لحكومتنا ولا لرئيسنا كبير إنجاز وإبداع!
فاستعينوا بالله ولا تعجزوا.. والله الموفق